يقول سيدنا وحبيبنا محمد ﷺ
( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )
ويقول أيضا ﷺ
( إنما مثلنا في الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها )
وهنا إعجاز من الرسول ﷺ لوصف حياتنا هنا بالرحلة .. نعيشها بكل أحلامنا وآمالنا وآلامنا وأفراحنا وأحزاننا ونستقي منها الفوائد ونترك أثرنا فيها ونتزود للرحلة الأكبر والأجمل بعدها ..
كلنا نخوض تلك الرحلة في حياتنا مرحلة تلو مرحلة باختلاف التفاصيل والأحداث ..
هذا جزء من رحلتي أشارككم به
رحلة رأيت فيها الحب في أعين من حولي
رحلة تطلبت تضحية شجاعة من شقيقي الجميل
رحلة خضتها بكل آلامها التي لم أشعر بها
رحلة من الأمل برحمة الله وتيسيره
لا أستجدي بسردها محبتكم أو عطفكم
بل تذكرة لي ولكم ولأحبابي جميعا بما مررت به
فتحملوني ^_^
(1)
لم أكن أطيق نفسي لحظة هبوط ذلك الصداع الرهيب على رأسي وكأنه يفتت مخي لأشلاء ..
عانيت منه طويلا لسنوات ..
في المنزل ..
في المدرسة ..
في المعسكرات ..
ولم أرحم نفسي ولم أرحمه ..
جرعات تلو جرعات من القهوة والبايسون والباورهورس والسولبادين والبانادول حتى أرتاح وأهدئ من تأثيره ..
لكن ذلك انعكس لاحقا بعد سنين معدودة إلى ارتفاع خطير في ضغط الدم ..
أمي كانت تؤكد أنها عين ما صلت على النبي ﷺ وتنهرني عن مواصلة مسيرتي في الأنشطة المتعددة المتلاحقة التي لا أجد مجالا للنوم والراحة بينها ..
عندما عرفتُ بإصابتي بارتفاع الضغط كانت وصايا الأطباء لا تخرج عن الالتزام بحبوب الضغط وتوخي الحذر من العصبية والسهر والأملاح وطبعا مشروبات الطاقة والغازيات والمهدئات ..
لكني بعناد غريب أو تجاهل مقنعا نفسي بأنني بخير وأنها مرحلة وستمر بسلام خاصة أنني لا زلت في الثلاثين من عمري ، واصلت في عاداتي الصحية السيئة ..
ورافق ذلك مشاكل متعددة في المدرسة والأنشطة أتعبتني نفسيا وجسديا ..
لدرجة أتعبت زوجتي التي حارت بيني وبين الاهتمام بطفلين لم يتعد عمر أكبرهما الثلاث سنوات ..
وفي أحد أيام رمضان 1429 هـ بعد أن أمضيت أول فصل دراسي لي كمشرف للغة الإنجليزية نقلت من قبل صديقي المقرب باسم إلى المستشفى كي أخفض الضغط الذي كاد أن يدمر رأسي ووصل يومها إلى 170/105
وبعد التحاليل أخبرني الدكتور عمر عريبي مع أحد الأطباء أنهم سيحولونني إلى مستشفى الملك فهد بدون أن أعرف السبب ..
سألتهم فقالوا للاطمئنان فقط ونسقوا مع الدكتور علي حكمي واتصلت بابن عمتي الدكتور عامر عديني والتقينا هناك ..
وبعد تحليل آخر جاء الدكتور علي وتحدث طويلا مع عامر وباسم وقرروا مصارحتي وإخباري بأن هناك احتمالا لوجود ضمور بالكلى وارتفاع في الكرياتينين ولا بد من تنويمي لمعرفة المزيد من النتائج ..
رفضت التنويم وأصررت على الحضور في الصباح لإجراء كل التحاليل التي يرغبونها ..
عدت للبيت وقضيت ليلتي أبحث في الانترنت عن هذه المعلومات إلى آذان الفجر ، لم أخبر لا أهلي ولا زوجتي بما حصل تاركا إياهم في نقطة ارتفاع الضغط ..
في الصباح .. لا أزال لم أذق طعم النوم فتوجهت وحيدا للمستشفى ، أجريت التحاليل وانتظرت الدكتور علي في مكتبه إلى أن جاء وقال :
المعذرة وليد ..
لا أدري كيف حصل لك ذلك مع أن شكلك لا يوحي بالمرض ولكن يؤسفني إعلامك بأن لديك فشلا كلويا وأفضل حل هو زراعة كلية من متبرع في أقرب وقت ممكن ..
(2)
خرجت من عنده ما بين مصدق ومستوعب وما بين مستنكر ، خاصة أني لا أشعر بأي آلام في كليتي ولا جسمي ما عدا ذلك الصداع الرهيب بين فترة وأخرى بسبب ارتفاع ضغط الدم ، ذلك العارض الذي يطلق عليه (القاتل الصامت) في الأوساط الطبية ..
عندما فاتحت زوجتي انعقد لسانها وجلست بجانبي صامتة فقدرت ذلك ، أحسست بالألم في نظراتها فأشاحت بوجهها وقامت إلى المطبخ لتعد لي بعض الليمون مع الزنجبيل ..
حتى أبي وأمي وأخوتي عندما تحادثنا في الموضوع لم يعطوا الموضوع ذلك الأهمية
وتناقشوا بعض قصص من يعرفوهم بهذا المرض مثل أولاد عمتي (زهرة أبو غزالة) في جدة
وكيفية توفير كلية للزراعة من مصر أو باكستان بينما كان أخوتي مستعدين للتبرع وأنا وأمي متحفظين
ولكن لم تمض فترة بسيطة حتى حللوا جميعهم وكان أكثر من يتوافق معي هو أخي وحيد الذي لم يطلب أكثر من إجازة مرضية تريحه قليلا من مسافة الطريق إلى عمله في محطة التحلية بالشقيق ..
من وقت استعداده لهذه اللحظة أكثر من خمس سنوات لم أعرف كيف أكافئه أو أقدره ولكني أتمنى من الله عز وجل أن تكون هي ثمن دخوله للجنة بغير حساب جزاء لتضحيته ..
كلها أيام بسيطة انتشر فيها الخبر في مدينتي جيزان وجاءت الاتصالات والرسائل من كل مكان حتى ممن عددتهم في قائمة ( اللا أصدقاء ) حينها وأنا أتعامل معهم بكل بساطة لأنني حقيقة لم أدخل في جو المرض بل مارست حياتي الطبيعية ..
مرت أسابيع من تحاليل الزراعة المستمرة ونصح الدكتور علي أخي وحيد بتخفيف وزنه وأشار علي بضرورة بدء الغسيل الكلوي وإجراء عملية جراحية في ذراعي لتوصيل وريد مع شريان ليتحمل الغسيل الدموي ومتعارف على مسمى (الجهاز) لهذه الوصلة الوريدية الشريانية وبنفس الوقت تجهيز قسطرة مؤقتة في رقبتي ..
تنومت يومها في مركز الأمير سلطان في غرفة مستقلة أصر عليها الدكتور بعد أن كانوا سيضعونني في قسم الجراحة
ولكنه بعدما عرف أن هناك غرفة مشغولة في المركز بأحد أبناء المسؤولين يعاني من كسر في قدمه قرر إخراجه لقسم العظام وإدخالي مكانه لأن المركز لمرضى الكلى وأنا أحق بالغرفة ..
ثمنت هذا الموقف كثيرا له ، كان المركز بمثابة فندق خمسة نجوم مقارنة بالمستشفى بجانبه وكان لذلك أثرا كبيرا على نفسيتي ..
ركبوا لي القسطرة وأجريت عملية الغسيل الكلوي لأول مرة في حياتي ولم أشعر خلالها سوى ببعض الدوار وقليلا من حالات الشد العضلي ولكن لا ألم على الإطلاق ..
صباح اليوم التالي توجهت لغرفة العمليات ، وهناك كانت السخافة بعينها ، ثلاثة أطباء من جنسيات مختلفة يتناقشون بحدة أثناء إجراء العملية ومدى صحة خطواتها
وأنا مخدر تخديرا موضعيا ولكني أسمع كل ما يقولون وطبعا لا يعرفون أنني معلم للغة الإنجليزية وأفهم تماما كل تهكماتهم على مهارات بعضهم ولم تتحرك من جسمي سوى عضلة العين مسقطة دمعة قهر على حالنا مع أطباء لا يوجد في قلوبهم ذرة إنسانية ..
بعد أن أعادوني للغرفة تعدد المرافقون معي (باسم) و(بندر) و(محمد) وزيارات متعددة من أهلي وأصدقائي وزملائي وطلابي
لدرجة أن الممرضين هناك يقسمون لي بأن عدد الزيارات يوحي بأنني مسؤول مهم ولكن إجابتي لم تخرج على أننا أهل جيزان رقيقي المشاعر ونقف دائما مع بعضنا ..
عدت للمنزل بعد أيام أتعامل بذراعي اليمنى فقط حتى يلتئم جرح الأخرى وتولى جميع من حولي مساعدتي شبه اليومية في الذهاب لقاعة الغسيل والعودة
وكنت أقضي معظم وقتي فيها في قراءة القرآن والحديث مع الممرضين والمرضى والتعرف عليهم قدر استطاعتي ..
ساعدتني الروح المعنوية العالية والابتسامة الدائمة في تجاوز آلام تلك الفترة
حتى اختبرت الغسيل عن طريق يدي وكان ألم الإبر الطويلة وقتها محتملا طالما لا أنظر إليها
ثم تعودت مع الوقت على ذلك مع العلاج الطبيعي المستمر لتحريكها ..
شهور معدودة في انتظار التقرير الختامي لتحويلنا لمستشفى القوات المسلحة بخميس مشيط أكملت فيها العديد من الكتب في قاعة الغسيل والمسلسلان المشهوران lost – prison break
بتشجيع من طاقم التمريض هناك (جابر) و(علي) و(عبدالله) والأطباء (سمير) و(علي) وغيرهم ممن ذهبت أسماؤهم مع الذاكرة
ومن المرضى (جابر زعقان) رحمه الله وأبو عبدالعزيز (السنوسي) وغيرهم من عدة قرى نجتمع مرتين أو ثلاثا في الأسبوع
وكأننا في صالة السينما نتناول الفشار لتعويض الأملاح وكلا على سريره يشاهد ويقرأ ويتباسط وينتظر انتهاء مدة الغسيل وصرف أدوية الفيتامينات والأملاح
ولم تعجزنا حالات الوفاة التي كانت تحدث أمام أنظارنا بل ندعو لهم بالرحمة ونتحلى بالصبر ..
أذكر يومها مشاركتي في مخيمات أحبتنا النازحين مع الكشافة حتى أبتعد عن جو المرض الذي يحيط بي
كان الجميع يستغرب صغر سني وفي نفس الوقت بساطتي ومرحي معهم ويدعون لي بالخير وتيسير الزراعة
وفي العمل كان لمديري يومها (أبوبكر ولي) وزملائي المشرفين وقفات لن أنساها في تسهيل مهامي ومراعاة ظروفي في تلك الفترة التي لم تتعد ال9 أشهر
حتى حان موعد السفر لخميس مشيط لإجراء تحاليل التوافق النهائية وفتح ملفاتنا هناك وكانت الصدمة أن طلبوا من أخي وحيد تخفيف أكثر من 30 كيلو قبل إجراء الزراعة ..
(3)
عدت لفترة الغسيل منتظرا وما كنت أعتبره مستحيلا حققه الجميل (وحيد) وأنقص وزنه بالكامل وكنت فخورا بإصراره رغم أنه لم يكن مجبرا مني بل تركت له راحته ولكنه أصر وهو يقول : على الأقل لأجل نفسي وصحتي
حتى حدث يومها حادث بسيط لنا قريبا من الدرب سرق على أثره جوالي ثم أعيد لي من الشرطة وسحبنا السيارة على سطحة إلى بيتنا ولحسن الحظ كانت سيارة (وحيد) قريبة منا ..
وعدنا بعدها بأسابيع للمستشفى من أجل المراحل الختامية وتحدد موعد العملية وودعنا أهلنا وتم ايداعنا في جناح التنويم ولكن للأسف تمكن الزكام من (وحيد) فأجلت العملية أسبوعا فقررنا النزول والعودة على مسؤوليتنا ..
رجعنا وفي هذه المرة أنا من أصابني الزكام وتأجلت العملية للمرة الثانية وبعدها صار ظرف عائلي للجراح فأجلت للمرة الثالثة وفي كل المرات كنت أغسل دمي في نفس الجناح تحت رعاية طبية فائقة وطاقم محترف ولطيف للغاية ويذكر الحبيب وليد شعراوي تلك الأيام جيدا ..
بعد أسبوعين من دخولنا تقرر موعد العملية وحضر جميع أهلي يومها واقتادنا الممرضون إلى غرفة العمليات ولم أشعر شيء إلا بعد ثمان ساعات حينما أعادوني للغرفة وأول ما رأته عيناي زوجتي الحبيبة واقفة في الرواق ويومها لم يبق على سفرها للبعثة سوى أسبوع وسافرت رغما عنها تحت إصراري الشديد وإقناعي لها بأنني سأكون بخير وسألحقهم بعد فترة النقاهة ..
تمت العملية بنجاح باهر ولله الحمد وكنا بخير جميعا ولم يضايقني يومها سوى قسطرة البول التي كانت مزعجة جدا جدا جدا وكنت أعد الدقائق التي بلغت 8640 دقيقة حتى أزالوه مني بنجاح وفي اليوم التالي كتب لي الخروج من المستشفى في منتصف عام 1431 هـ على أن أراجعهم يوميا ..
استأجرت أمي شقة قريبة وتناوب على المكوث معنا (مروان) و(خالد) طوال ثلاثة أسابيع كنت أقضى معظم وقتي في السكايب مع عائلتي في رحلتهم الجديدة لأمريكا ..
تجشم العديد من الأحباب السفر لزيارتي واتصالات متعددة تسأل عن موعد رجوعي للمنزل للاطمئنان علي في مواقف لا أنساها لهم ..
دخلت المستشفى ووزني 78 وخرجت منه بوزن 71 وخلال شهر واحد مع الجرعات المكثفة للكورتيزون وصل إلى 82 ولا يزاول يتراوح في هذا المعدل ما بين 81-85 في الأربع سنوات الماضية ..
لا أنسى الجميل (صالح الزهراني) منسق الزراعة وجهوده المستمرة معنا أيامها وحرصه على توفير كل ما نحتاجه ..
ثلاثة أشهر بعد عودتي لمنزلي في عزلة عن الناس ما عدا الزيارات اليومية المعتادة للأصدقاء تخللتها رحلات شبه أسبوعية للخميس من أجل الأدوية والتحاليل مع أخوتي (وحيد) و(محمد) غالبا
وبدأت حياتي تعود لطبيعتها ولكن من دون عائلتي هذه المرة فتسلحت بالصبر والأمل وتحملت والفضل بعد الله لأمي ووحيد وأخوتي وأصدقائي الذين لم يحسسوني لحظة بالوحدة
ياااه شكرا وحيد من أجل وليد
قصتك هذه ذكرتني بقول كنت أقوله و نسيته مع الوقت (الحمد لله أن الله الذي خلق لي من سيحبني و سيصادقني و يقف معي في حياتي قبل أن يخلقني و بعد أن خلقني )
الله يسعدك ويرفع قدرك حبيبي وممتن لمشاعرك
ادامك الله لعائلتك و انت ب حسن حال استاذ وليد
دعيت الله ان لاترى مكروه انت و عائلتك ب حياتكم
دمتم بسعاده جميعا
اللهم آمين
ربي يرفع قدرك أختي
ممتن لتشريفك ودعواتك
اللهم آميييييييييين ي أٌستاذي
ميرسي لك
دمت بخير
اسال الله ان تكون سعيدا معافا ذاكرا لله دوما ..
عندما قرأتها لأول مرة فاضت عيناي من الدمع
واختلطت المشاعر في داخلي بين الحزن والفرح والدهشة
لقد جسدت وأخوك أجمل معاني الاخوة والحب والايثار
انت ايها الرائع المليء بالحيوية والنشاط والطموح اللا منتهي كنت مثالا للصبر علی الابتلاء والإصرار علی قهر المرض .
الأخ وحيد ضرب أجمل مثال للتضحية والحب الأخوي النادر والثمين في زمن سادت فيه الأنانية وحب الذات .
هنيئا للوالدة الله يحفظها التي أنجبت وربت وزرعت فيكم أجمل القيم و اسمی مشاعر الحب
أخيرا أسأل الله العظيم أن يديم عليكم نعمة الصحة والا يوريكم مكروه ويثبت اجركم
اللهم امين
حمدا لله على سلامتك
حمدا لله على وجودك في الدنيا
و عدم فقدانك
اسأل الله ان يمتعك بالصحة والعافية الدائمة أنت واخيك
وأنا اتجول بين السطور يتجسد لي والدي ومعاناته اسأل الله ان يشفي جميع مرضى المسلمين
الف شكر لك أستاذي.
رَبّـ❤ـيٌ يحفظك ويوفقك اخوية العزيز وليد قادري ويحفظ اخوك الرائع وحيد ،،، رَبّـ❤ـيٌ يحفظكم ويوفقكم جميعاً ،،، فعلا تضحية ما بعدها تضحية ان شاء الله في ميزان حسناته وربي يوفقك لفعل الخير
حبيبي والله ربي يسعدك ويديمك