(1)
خرج من صلاة القيام في الليلة التي تسبق ليلة عيد الفطر ، مشى الهوينا إلى سيارته ومكث فيها فترة يتأمل حاله ..
يمر بفترة يرثى لها هذه الأيام ، مشاكل عائلية قد تصل للطلاق ، ضغوطات مالية في تجارة العقار التي تخصص فيها رغم كونه موظفا حكوميا ..
كان يقنع نفسه دوما بأن تأمين المستقبل أهم من الالتفات للحاضر وهذا ما فاقم الأمور في زواجه حيث تشتكي زوجه من إهماله لأولاده على حساب سعيه الحثيث للثروة ، حتى أمه وأخوته يئسوا من تجاهله رغم أنه (البكر) في العائلة إلى أن تحولت العلاقات لرسمية باهتة ..
– سيحل العيد بعد يومين
خاطب نفسه ولا يدري هل هي فرحة أم انزعاج بقدوم تلك المناسبة الاجتماعية التي يكرهها ..
نعم يكرهها جدا ، فهو لا يرتاد مجالس ومتاكي زملاءه وجيرانه وأخوانه في ذلك اليوم ، ولا يحب قضاء الوقت مع أطفاله بل كالعادة يرمي بالمال لزوجته قبل العيد لتأخذ أغراضهم وتتنزه بهم في الملاهي والمولات ، ولا يحب المجاملات المقيتة والرسائل المعلبة ، ولا يطيق المناسبات الرسمية التي لا تخرج عن كلمة فلان وعلان وشعر مستهلك ورقصات مكرورة ، وأكثر ما يزعجه توقف الدوام وسوق العقار والبنوك في تلك الفترة ..
يتسائل دوما عن سر فرحتهم بهذا اليوم ، رغم مواظبته شبه الدائمة على فروضه الدينية لكن هناك فجوة بداخله لا يدري كيف يملؤها ..
سيقضيه وحيدا كعادته في الغرفة ، قد يقرأ كتابا أو يراجع بعض الحسابات أو يمضي عيده نائما تعويضا لسهر ليالي رمضان ..
مر الوقت سريعا وهو يفكر ويتذكر ويحلل ، انتبه للوقت في السيارة فوجده يقارب على أذان الفجر فأسرع للبيت ليتناول السحور قبل الإمساك داعيا ربه أن يسدد حاله ويشرح صدره ..
****
(2)
استلقى في نوم عميق في ظلام دامس حيث أنه خصص غرفته الصغيرة المعزولة عن عائلته بلا نوافذ إلا واحدة غطاها بعاتم للضوء ..
استيقظ فزعا من ضربة خفيفة على فخذه فرأى كائنا يجلس على فراشه ..
ارتاع وانسحب للخلف قارئا المعوذات وآية الكرسي بصوت عالي ولمح ابتسامة الكائن الذي اقترب فتبينت ملامحه مع ضوء الهاتف النقال الذي استقبا رسالة تهنئة بالعيد ..
– عجيب ، الملامح ذي تشبهني
– بالتأكيد فأنا أنت
– أعوذ بالله من الشيطان ، توكل عني بالله
– لا تخاف ، أنا هنا حتى أقول لك أني عارف ليش ما تحب العيد .. لا تنس أني أنا أنت ..
– يا ربي . .. شكلي أحلم .. ماهو ذا
– ممكن حلم وممكن حقيقة .. أنا تجسيد لذكرياتك وماضيك وعارف عنك كل شيء ..
– ايش تعني ..
– أنت كنت تسأل نفسك .. وأنا الإجابة .. تعال معي ..
انقاد معه بلا استيعاب ولا مقاومة ، تفاجأ وهو يفتح الباب بأن الأرض التي أمامه لا تزال سبخة قاحلة ..
– احنا فين ؟
– رجعنا ثلاثين سنة في الماضي .. بالضبط في اللحظة اللي استوعبت فيها أول عيد لك .. بأوديك لبداية الأحداث وانتبه معايا ترى ما راح يرانا أو يسمعنا أحد، راقب بس ..
أخذه وفي لمح البصر طار به لحارته القديمة بعد صلاة العيد وعمره لا يتجاوز الثامنة يومها ..
اغرورقت عيناه بالدموع وهو يرى الأطفال يجرون فرحين في ملابسهم الجديدة ويتنقلون من منزل لمنزل لتناول الطعام وتجميع الحلويات والعيدية والألعاب النارية البسيطة ( الشحات / الطراطيع ) تلعلع من حوله ..
لفت انتباهه طفل صغير رث الملابس في زاوية والأطفال يضحكون عليه ..
اقترب منهم فعرف نفسه مباشرة ..
انهالت الذكريات على رأسه كالبرق ، يذكر يومها خروجه باكيا مكسورا من بيتهم البسيط المتهالك لعدم استطاعة أهله الفقراء شراء حاجيات العيد له وعندما اعترض محتجا تلقى صفعة أبيه على وجهه فخرج يجر كبريائه ويتجرع حرمانه ..
كرِه العيد يومها ولا يزال وشمل ذلك الجيران لعدم مساعدتهم لهم ، جرى حاملا في قلبه مقت الدنيا والفرحة والفقر نحو شاطيء البحر القريب وقضى يومه هناك وحيدا إلى غروب الشمس وبعدها لم يحتفل أبدا بأي عيد رغم تحسن أحوال أهله ومحاولات من حوله لتليين قلبه ..
– خذني من هنا بالله .. ما أطيق الذكرى ذي
– لا تستعجل
أخذه من يده وتوجه لمنزله القديم ..
شاهد أباه يبكي وهو يناجي أمه متحسرا على حرمان أولاده من فرحة العيد ..
دق الباب مجموعة من الجيران وأبنائهم يحملون معهم الهدايا والعيدية والحلويات والملابس الجديدة والألعاب وأصروا على والده وأمه أن يتقبلوا الهدايا وأن الجيران لبعضهم والفرحة للجميع ..
تذكر حينها أنه عاد مباشرة لينام رافضا أن يفرح أو يعيّد رغم محاولات أمه لعرض الهدايا والحاجيات الجديدة عليه ، لكنه نظر شزرا لها ونام في مكانه على الأرض معطيا ظهره لها ..
– لو أنك بس صبرت قليل كان ما ظنيت السوء في أهلك وجيرانك وكان عذرتهم ، حرمت نفسك كثير من الفرحة بسبب موقف بسيط كان ممكن تتداركه وتتجاوزه بدون حكم مسبق ..
مط شفتيه دلالة على عدم اقتناعه وطلب منه العودة لمنزله فورا ..
****
(3)
ما لبث أن وصل لمنزله واستلقى إلا والكائن على فراشه ..
– ايش تبغى عادك ؟ مش مكفيك الذكريات السيئة اللي رجعتها لي .. اصرف أذيتي عنك
– أنا أنت .. لكن ماني ذكريات الماضي .. أنا حاضرك ..
فأخذ هاتفه وسلط نوره على الكائن ليرى صورة طبق الأصل منه حاليا .. بنفس شعره الخفيف ولحيته المشدبة والهالات السود تحت عينيه ..
– وإيش تبغى أنت كمان ..
– قم معاي بس دقايق ، بأوريك حاجات ما شفتها في يومك ..
لم يقدر على الرفض ، مضى معه ففتح الباب وبداية توجه به لمنزل أمه مع صلاة العشاء الفائتة فوجدها تصلي وتدعو الله بأن يهدي ابنها لزيارتها ومعايدتها وأن يألف قلوب الأخوان جميعا ..
تأثر كثيرا بالمنظر وفضحته دمعته فقرر أن يزورها ويستسمح منها ولكن بعد العيد ..
عاد به الكائن لمنزله ولكن هذه المرة بين عائلته .. أشار له بالهدوء والاستماع لحوار زوجته وأطفاله الأربعة ..
– ماما .. ماما .. متى نروح للملاهي
– ماما .. أبغى أرجع اللبس ذا ولا وأبدله
– ماما .. بابا رايح معنا للملاهي .. صح ؟
– ما بيروح أبويا معانا لأي مكان ، هو يحب ال(ريالات) أكثر منا ..
تنقلت عينا الأم حائرة بينهم ولا تدري بم ترد فأخذت تصبرهم بأن أباهم مرهق ومشغول وأنه أعطاها عيديتهم ومصاريف العيد فليفرحوا من أجلهم وأجله ..
تذكر خصامه البارحة مع زوجته لأنه لم يعطها سوى 2000 ريال مدعيا كفايتها وأن كل سيولته في سوق العقار والكل في إجازة ، كان يود لو دخل بينهم ليحضنهم ويقترب منهم ويشاركهم الفرحة لكنه تذكر أنهم لا يرونه ولا يسمعونه فأقرها في نفسه أن يعوضهم بعد العيد بسفرية إلى مدينة سياحية قريبة ..
التفت لشبيهه وطلب منه العودة فيكفي ما رأى ..
فعاد به للغرفة لكن في نفس التوقيت ليرى نفسه بين الملفات وجهاز الحاسب المعمول يتابع وصول حسابه لحاجز المليون ريال لأول مرة منذ بداية تفرغه للعقار متناسيا واجباته نحو عمله وعائلته ..
راقب نفسه يريح ظهره وعيناه المجهدتين على الكرسي ويغفو ..
****
(4)
مرة أخرى جاءه الكائن بعد غفوته ..
– سأعوضهم أقسم بالله .. بعد العيد
قام فزعا من الكرسي ولا يتذكر كيف تحول من فراشه للكرسي !!
– أنا أنت لكن في المستقبل ..
أضاء النور الصغير عند مكتبه فوجد أمامه نسخة أكبر سنا منه ذات ملامح ذابلة ووجه متغضن قليلا ..
– ما راح نروح لبعيد .. هنا في الحوش ونرجع ..
لاحظ العدد القليل من الناس في فناء منزله واختلاف التوقيت حيث أن المساء قد حل رغم أنه لا يزال يشعر بأنه في الصباح ..
لمح أربعة فتيان مع رجلين يحملان ملامح قريبة منه ويصافحان الناس القليلي العدد هناك ..
– ماهو ذا ؟ ..
– هذا اليوم الأول في عزاك .. توفيت ليلة العيد بعد عدة سنين وذولا أخوانك وأبنائك يتقبلون العزاء .. أمك توفت قبلك بكم سنة حسرة على حالك وزوجتك طلقتها وتعيش في ذمة رجل آخر مع أولادك وأنت عزلت نفسك وتوفيت وحيدا في هذا البيت رغم ثروتك وعقاراتك ..
انقبض قلبه من هذا المشهد واقترب من عائلته وسمعهم يتحاورون مع عمهم
– بعد العيد مباشرة نتقابل في المحكمة ، نستخرج حصر الورثة ونوزع التركة بيننا ..
– الله يغفر لك يا أبويا .. ما شفنا منك فرح ولا خير إلا بعد موتك ..
صدم صدمة شديدة من هذا الحوار ، التفت للكائن وحاوره باكيا
– ما هو ذا اللي أسمعه ..
– هذي النتيجة المنطقية لتجاهلك لعائلتك وأبنائك وما تحب تقصي وقتك معاهم والتفاتتك لثروتك وانعزالك عنهم وحرمانك الفرحة عن نفسك ومشاركتهم بها ..
– ماهو أسوي طيب .. كيف أغير ذا كله .. رجعني للحاضر وأقسم بالله أنني بأتغير .. لا أتخيل أن هذا مصيري .. كيف سيرضى الله عن عبادتي وأنا عاق لأمي وأخوتي وأبنائي ولا أفرح بعيده الذي فرضه لنا .. بأتوب والله يأتوب بس رجعني للحاضر ..
ابتسم الكائن بسرور وأخذ بيده ..
***
(5)
استيقظ مذهولا مع الأذان ..
التفت للساعة فوجدها بتوقيت آذان المغرب ..
شرب من قارورة ماء بجانبه وحمدالله على أن فرج همه وجنبه ذلك المصير ، كان حلما رهيبا مخيفا بل أشبه بكابوس ..
قام وتوضأ ونزل للمسجد ، سلم على جيزانه بعد الصلاة وشددوا على تواجده غدا صباح العيد لمشاركتهم الفطور الشعبي ، انتظر أولاده عند باب المنزل واحتضنهم وهم في حالة من الدهشة والاستغراب والفرحة ..
دخل معهم على زوجته وطلب منها التجهز بعد صلاة العشاء لزيارة أمه وأهلها ومن ثم إلى المول لإكمال احتياجات العيد وبعدها يتناولون العشاء سوية في أي مطعم يحبونه ..
فرحت زوجته وقبلته فاحتضنها وقبل يدها وهو يقول : لن أترككم بعد اليوم وسأخفف من خروجي لمكتب العقار ..
ردت زوجته جذلى فرحة :
– استجاب الله لدعواتنا أنا وأمك بأن يقربك منا ويهديك ويعيد الفرحة لعائلتنا .. العيد بكرة ولكن اليوم عيد عندي وعند أطفالك وما راح ننساه ..
فرح لقولها وتوجه سريعا لغرفته لجلب احتياجاته لغرفة النوم مجددا،
ما العيد سوى فرحة واجتماع العائلة والأصدقاء ، لقد حرم نفسه طويلا من ذلك وسيعوضها بدءا من الغد ، شكر الله على ذلك الحلم الذي أعاده لرشده والشخصيات التي زارته وأرشدته ،
نظر اتجاه الفناء الواسع
فرأى ثلاثتهم يلوحون له ..
همس لنفسه في رهبة :
– لا أكون عادني أحلم !!
تمت بحمد الله
💘
ليت باقي الاشخاص يدركون م فاتهم و يعوضون احبابهم
فعلا .. لن يشعروا إلا بعد فوات الفوت
خليتني أبكي
مرة حبيتها
الله يحفظك لأهلك و أحبابك يارب