(1)
طرق الجندي الباب يستأذن بالدخول، أشار إليه الرائد (عبدالله) بأن يدخل:
– لقد أحضرنا الشخص الغريب الذي قبضنا عليه في الحرم، الأوامر تقتضي بأن نجلبه إليك للتحقيق..
– حسنا، أدخله حالا..
تناول آخر رشفة من القهوة التي يشربها مركزة حتى يتم مهمة التحقيق مع هذا الشخص، فالمعلومات التي وردته بأن الناس اجتمعوا يتباركون به في البيت الحرام، لعله مخبول صوفي آخر أو مدعٍ للنبوة وصدقّه البسطاء، صادف العديد من أمثاله بحكم تخصصه الرئيسي في علم النفس قبل أن يتقدم للالتحاق في السلك العسكري، وهاهو الآن يشار إليه بالبنان كمحقق محنك ذو رؤية عميقة وعينين حادتين تكادان تنفذان لأرواح من يخاطبهم، ترى ما الجديد في هذا الشخص حتى يوقظوه من نومه وفي يوم راحته للأهمية..
دخل الجندي مع الرجل المتهم بإخلال الأمن في الحرم، لا تبدو عليه ملامح الجنون، يرتدي ملابس بيضاء بسيطة وعمامة بيضاء وله وجه سمح وملامح وسيمة تسر الناظرين، تسائل (عبدالله) عن سره وما الذي جعله يصل لهذه المرحلة، لعله فصام أو تهيؤات لا غير، لم يبدأ مفعول القهوة بعد ويود أن ينتهي منه سريعا ليعود إلى منزله..
أمر الجندي بالانصراف والغريب بالجلوس..
بادره بالسؤال وهو يقرأ أوراق محضر الضبط:
– يقال هنا أن الناس اجتمعوا عليك في الحرم.. لماذا ؟!
رد عليه الغريب :
– حاولت منعهم والتملص منهم بهدوء لكنهم حاصروني..
نظر إليه (عبدالله) بحدة :
– أتريد أن تقنعني بأنهم رأوك هناك ثم قرروا من رؤوسهم أن يأتوا إليك ويتمسحوا بك بدون أن تخبرهم أو توحي إليهم بأي شيء..
– نعم هذا ما حدث.. أحد المصلين الزهاد ربما ظن أنه تعرف علي، فقدم الآخرون على إثره وقلدوه ولم أستطع إيقافهم..
– يجب أن تخبرني الحقيقة.. أتريدني بأن أصدق بأنك ذهبت إلى هناك بدون أن تتعمد لفت الأنظار لك في هذه الفترة العصيبة بالذات..
– نعم هذا ما أقوله.. وفي الحقيقة لم أكن أريد الذهاب إلى هناك إلا لأنها وسيلتي للوصول إلى هنا..
صدم (عبدالله) من هذه الإجابة وطلب منه إعادة إجابته..
– أقول لك يا (عبدالله) .. ذهبت إلى هناك كي آتي إلى هنا، لأقابلك أنت.. أنت الهدف من تواجدي هنا..
(2)
كانت إجابة الغريب كافية بأن تفجر مفعول (الكافيين) بداخله وتطلق (الأدرينالين) فشحذت حواسه وعدل جلسته وسأله في توتر..
– ماذا تقصد بأنك تريد مقابلتي، من أنت..
– أنا هنا لأجلك، كما أنت هنا لأجل (عبدالرحمن)..
لم يتمالك (عبدالله) نفسه وشهق:
– (عبدالرحمن) ؟!
– نعم، (عبدالرحمن).. توأمك الذي توفى قبل ثمانية عشر عاما، ضحى بحياته من أجلك يومها، دفعك بعيدا عن السيارة التي كادت تدهسك، لم تستطع يومها التحدث وإخبار الكل بأنه أنقذك وأنك أنت من كان مفترضا أن يموت يومها، أثقل هذا السر كاهلك منذ الصغر فقررت أن تتخلى عن كل أحلامك بدراسة الطب وقررت التوجه للسلك العسكري لتحقيق أمنيته التي كان يرددها دوما في صغركما، كما تزوجت جارتكم التي أحبها هو، وكأنك تريده أن يعيش أحلامه من خلالك..
بدا على (عبدالله) الوجوم والدهشة وكأنه أصيب بصاعقة، لا أحد يعلم تلك الأحداث غيره، هل هذا ساحر أم كاهن..
– من أنت يا رجل ؟! وكيف علمت كل هذا ؟! أأنت إنسي أم جني ؟!
ابتسم الغريب وقال:
– هون عليك أنا بشر مثلك، اسمعني وركز معي.. هل ترى السجادة الجميلة هذه في أرضية مكتبك ؟!
حتى تكون بهذا الإتقان والجمال، تتداخل العديد من الخيوط بها وتتقاطع وتتكوّن من طبقات بعضها فوق بعض.. أليس كذلك ؟!
نحن في هذا الكون، في قدر الله سبحانه وتعالى وبعلمه، يمثل كل منا خيطا واحدا، تتقاطع خيوط حيواتنا وأقدارنا مع بعضها لتشكل نسيجا كونيا فريدا، فالله يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وهذا هو القدر..
أيضا يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون..
أي أنه لو لم ينقذك أخاك يومها لكان قدركما مختلفا اليوم، فوجودك ووجودي هنا الآن هو نتاج تلك اللحظة الحاسمة..
تلعثم (عبدالله) غير عالم كيف سيحاور هذا الرجل الغريب، اشتهر بين أقرانه بكاريزما عالية جدا وقدرة قيادية غير عادية، لكنه يشعر الآن بالخوف والضعف كحيوان جريح لا حول له ولا قوة بين براثن جارح مفترس..
– أخي (عبدالله)، اهدأ قليلا، تعال بجانبي وفك قيودي واسترخ واذكر ربك وسبحه واحمده.. جئت لأجلك مبشرا ومحذرا فلا تبتئس..
قام إليه وفك القيود وجلس في الكرسي المقابل له فابتسم الغريب بوقار في وجه الرائد فارتاحت نفسه..
– ستعود اليوم إلى منزلك، ستبشرك زوجتك بحملها، وستلد لك ولدا جميلا بإذن الله..
استغرب حديثه، لأنه وزوجته يحاولان منذ سنوات ولم يكتب لهما الله ذلك..
– هذه بشارتي، واسمه (محمد).. قدمت إليك لأبشرك بذلك، وأنذرك بأن لا يعلم أحدا عنه، احرص عليه جيدا..
– ماذا تقصد ؟!
وضع الغريب يده على يد (عبدالله) فاتسعت عيناه في رهبة، لا يكاد يصدق الكم الهائل من الأحداث التي يراها، وكأن خيوط الماضي والمستقبل اجتمعت في شريط يراه رأي العين..
– هل تقصد أن ابني (محمدا) الذي سأرزق به هو… هو….
وضع الغريب اصبعه على فمه وأشار عليه بالكتمان وهز رأسه إيجابا..
– سيأتي العديد يبحثون عنه ليقضوا عليه في صغره، لذلك لا تخبر أحدا حتى هو ذاته، فقط احرص على حمايته، يجب أن تحميه بأي ثمن..
اغرورقت عيني (عبدالله) بالدموع وهو يتخيل هذا الشرف العظيم والمهمة الجليلة التي ألقيت على عاتقيه..
قام ليعانق الغريب ويشكره وهو يحمد الله، رأى بعدها تألق وجه الغريب، أضاءت ملامحه حسنا وإشراقا..
فسأله مستعجبا :
– أهكذا رآك ذلك الزاهد في المسجد، ألأجل ذلك تدافع عليك الناس رغم أنهم لا يعرفونك.. لكنك لم تخبرني من أنت ؟
ابتسم الغريب وقال :
أطلق الناس علي أسماءا وألقابا كثيرة، فقط تذكرني كما وصفني الله تعالى بأني عبد من عباده, وبالهبة التي رزقنيها وآتاني رحمة من عنده وعلمني من لدنه علما..
حان وقت ذهابي الآن، لا تنس يا (عبدالله).. عليك حمايته بأي ثمن.. حفظكما الله..
رائعه من روائعك