إدريسي …

IMG_8688

(1)

استيقظ من نومه نشيطا على غير عادته، دخل دورة المياه واستحم وفرش أسنانه بعناية ولم يأبه كثيرا لبعض الشعيرات البيضاء في فوديه ولحيته المهذبة ، صب لنفسها بعدها كوبا من القهوة الكولومبية التي يعشقها واستلقى على أريكته وفتح التلفاز باحثا عن آخر الأخبار ..

يحب كثيرا أيام الإجازات، ويحب أكثر روتينه فيها الذي يستغله لمتابعة ما فاته من أخبار ومسلسلات وأفلام، يبدو أن الجو جميل اليوم ولربما يذهب في نزهة ..

قلب في القنوات ولا جديد، لا تزال الحروب والنزاعات مسيطرة على الأجواء …

بدأ يشعر بشيء غريب ولكن ماهو ؟؟

لا يدري ..

حدث نفسه قائلا ” سأستمتع بيومي بدون تنغيص “

لفت انتباهه عنوان في الشريط الإخباري

( أوروبا تعلن عن تقديمها مساعدات عاجلة لدول أميركا الشمالية)

كانت أميركا دولة واحدة، لماذا يصفونها بأنها دول، ولماذا ذكروا أوروبا، هل يقصدون الإتحاد الأوروبي ..

خبر آخر فاجأه :

( اكتمال مشروع التوسعة في الحرمين الشريفين في الحجاز ورؤوساء الدول العربية والإسلامية يتبادلون التهنئة بهذا الإنجاز العظيم )

استغرب ، منذ متى تساعد الدول العربية في أي مشروع داخل السعودية ؟؟

” لعلي ابتعدت كثيرا هذه المرة مع انشغالي بعملي وهناك مستجدات لا أعلم بها “

بحث عن القنوات السعودية الرسمية لعله يتدارك ما فاته من أخبار، قلب مرارا لكن لا وجود لها ..

” غريبة ، أهملتها سنينا كعادة سكان البلد ، والآن لا وجود لها ، إما أن جهاز الاستقبال قد تعطل أو أنهم ألغوها وأراحونا منها “

تنقل من قناة لقناة يبحث عن أخبار عن بلده لكن لا جديد ، هناك أخبار متفرقة عن نجد والحجاز والشرقية وعسير والأردن والعراق ومصر ولكن لا وجود لأي خبر عن السعودية أو الملك أو الأمراء ، حتى أخبار الرياضة لا يوجد فيها ذكر لناديه المفضل الإتحاد ولا الأندية الأخرى المنافسة ..

لفت انتباهه خبر في شريط قناة العربية يقول :

( العاهل الإدريسي يهنيء إمام اليمن بمناسبة مرور ربع قرن على توليه العرش ويشدد على جودة العلاقات الثنائية بين المملكتين )

” ماهذا الخلط ” حدث نفسه ..

” دولة الإمامة في اليمن والأدارسة عندنا في جيزان قد انتهت منذ 80 عاما أو يزيد ، وأين ذكر السعودية في الإعلام ، هل عاد بي الزمن للوراء ، ولكن كيف وأنا في منزلي وكل هذه التقنية الحديثة تحيط بي “

تأكد من التاريخ ، صحيح اليوم هو الأول من ديسمبر لعام 2016 ، لا يوجد تاريخ هجري في جواله ، تأكد من صحيفة بجانبه ربما من عدة أيام ولم يحد التاريخ الهجري ولا يوجد أي خبر عن السعودية ..

” ما الذي يجري ؟؟

هل أنا أحلم ؟؟ “

قرص نفسه فتوجع ، كل شيء حوله يبدو حقيقيا ، ” ماذا حدث ؟ لا أفهم شيئا “

” أين أنا ؟ “

(2)

لم تمهله خيالاته طويلا وهو يعتصرها بحثا عن إجابة منطقية، قرر الخروج لعلّ الهواء ينعش عقله ويمدّه ببعض الإجابات، لمح أثناء سيره أحدا يتعقب أثره، لم يتوجه لمركبته واستمر بالمسير في الشارع الرئيسي المغذي لشوارع المدينة مفكرا في لحظة يتملص فيها من هذا الذي يتعقبه..

كان هناك صراع شديد يدور في أعماقه وهو يرى الأماكن ولوحات المحلات وأسماء الشوارع التي عهد عنها أنها بأسماء الأمراء، أحس فجأة بأنه لا يعرف من هو ولا أين هو ؟!

” هل أنا في حلم، هل كل ما عشته خيال وتهيؤات، لا أرى دليلا واحدا على كينونتي هنا، حتى أشكال الناس غريبة وغير مألوفة وكأنني في مدينة تختلف عن التي ولدت وترعرت بها، هناك دفقات من الطاقة تعبر ثنايا مخّي وتضخ معلومات جديدة فيه، أكاد أشعر بأنني مجرد شخصية في قصة يرويها روائي شهير ولا تحكم لي بذاتي وأفكاري بل صرت مجرد دمية في يد هذا الكاتب يتلاعب بي،  ربما أنني انتقلت لكوكبٍ أو كونٍ آخر تختلف فيه الأحداث التاريخية عما عهدته، هل يعقل ذلك، الخيار الأقرب لعقلي أنني أعيش كابوسا سخيفا وسأكتب عنه حالما أستيقظ وأنشره كقصة أدبية خيالية، هل أنا في حلم تخلله كابوس أم في كابوس تداخل معه حلم، الأرجح أنني في غيبوبة وهاهو عقلي الباطن يتلاعب بي ويتسلى ككلبٍ يحجز قطاً في زاوية ويتنمر عليه وكل هذه الهلاوس هي ردة فعلي الشرسة لتحكم عقلي الباطن بي، يا لحيرتي أين سأجد الحقيقة، عقلي يكاد ينفجر حتى ذكرياتي عن مدينتي وطفولتي تضمحل وكأنها زرعت في عقلي ولم تكن حقيقية، يا ربّاه ما الذي يحدث ؟! أين أنا ؟! “

توقف عن السير للحظة فعاجله ذلك الشخص الذي يتعقبه وأمسك بذراعه بإحكام، لم يستطع التملص منه وإرهاق عقله الشديد منعه من سؤاله فانقاد معه بانطياع، ربما عند هذا الغريب جواباً لأسئلته، دخل الغريب في أقرب تفرع للشارع ووقف أمام البوابة الخلفية للبنك الشهير وقال :

” تمسك جيدا يا (نزار)، كن رابط الجأش ولا تتفاجأ بما ستراه، ستعرف كل شيء قريبا جدا “

فتح الباب بسلاسة وذلفا سويةً ليجد نفسه في داخل قاعة كبيرة أشبه بالمحكمة ..

نظر إليه القضاة التسعة الذين كانوا يجلسون على المنصة قبالة الباب وقال رئيسهم:

” عودا حميدا يا (نزار)، كانت تلك محاولتك الأخيرة ولن نسمح لك مجددا بمعاودتها، تدخلاتك أصبحت خطيرة وأنت بحاجة إلى حجز مؤقت حتى تستعيد صوابك وذكرياتك يا ولدي “

نظر (نزار) مذهولا لكبير القضاة وهو يغمغم ” أبي، أأنت أبي حقاً “

(3)

أجلسه مرافقه على الطاولة المعدنية المقابلة للمنصة، تأمل حوله فرأى ما لا يقل عن المائة شخص ينظرون إليه بنظرات تترواح بين الإشفاق والشماتة والحنق والتأسف على حاله، أشاح بنظره عنه وثبت ناظريه على الكأس الزجاجية الماثلة أمامه على الطاولة، وضع مرافقه عددا من الأقراص الفوارة في الكأس وطلب منه أن يشربه، أمره والده رئيس القضاة بأن يفعل ذلك سريعا، فهذا الدواء كفيل بإعاده عقله لحالته الطبيعية واسترجاع ذكرياته الحقيقية ..

” لن تعرف من أنت ولا أين أنت ولا ماذا يجري حتى تتناول الدواء، سيزيح الغمة عن عقلك وتنكشف لك الحقيقة التي تهربت من مواجهتها “

شربه على مضض، أحس بدوار شديد وتنميل في أطرافه تبعه انتفاضة عنيفة وكأنه مصاب بصرع لا يُرجى برؤه، تدفقت الذكريات والحقائق والأحداث من كل مكان إلى عقله، ذرف الدموع متندما ومتأسفا لما فعل وأرخى رأسه على الطاولة وهو يبكي ..

قال له رئيس القضاة:

” لعلك تشعر أنك في محاكمة وأننا هنا لنحكم عليك فقط على الجرم الذي اقترفته، لكن هذا غير صحيح، نحن هنا لنعيدك إلى مجتمعك بيننا بعد أن أتممت عقوبتك ولترى بعينيك مدى التغيير المدمر الذي أحدثته بصنيعك “

رفع رأسه وأومأ موافقا على ما يقوله والده ..

” الهدف الأسمى من وجودنا هنا هو مراقبة الزمن، والحرص على عدم التلاعب به ليستمر في مساره، شهدنا جميعا أحداثا مأساوية لا حصر لها لكنها كانت ضرورية للعديد من الاعتبارات الكونية فالتوازن مهم وضروري، حذرتك من صغرك من التدخل في الأحداث وأذكر مرارا رغبتك في تلافي حدوث الحروب العالمية والمذابح الجماعية وإرهاب الجماعات الطائفية من جميع الأديان، وفي كل مرة أذكرك بأن تتذكر أن الهدف الأسمى هو أن نحرص على بقاء الأمور كما هي عليه إلا إن أمرنا من خالقنا بغير ذلك، هذه هي تعليمات قائدنا الأعظم ومؤسس عائلتنا كبير المُنظَرين كي لا نترك مجالا لقوى الشر بالتدخل وأن توالي الأحداث السيئة سيقابله الكون بالتصحيح وستكون الأحداث المقبلة مليئة بالحب والسلام والخير لتتوازن القوى والنواميس “

واصل رئيس القضاة تذكير ولده (نزار) بما جرى بعدما رأى عمق ندم (نزار) على صنيعه ..

“كنت قد سامحتك في المرة الأولى عندما تكررت محاولاتك لمساعدة تيسلا في تجارب الطاقة الحرة وأينشتاين في النسبية العامة وهربرت ويلز عندما كتب عن آلة الزمن في فهم كنه الزمن ومدى إمكانية التنقل منه وإليه بسلاسة كما نفعل نحن، ولولا جهودنا في إخفاء العديد من الحقائق عنهم لاستمروا في محاولاتهم الفضولية ليختل التوازن الزمني بلا إدراك منهم بخطورة الموقف”

استمر في حديثه قائلا بعد أن حل الصمت في الأجواء

“غضبت مني وقررت التدخل في المسار الزمني بخطوة صغيرة أعاقت التاريخ لقرن كامل وتضخمت الأحداث بصورة كارثية، أصبح أبطال الحرب هم الضحايا ومجرمو الحروب هم الأبطال، اتحد الشرق مع الصينيون والفرس مع السند وأوروبا في دولة واحدة تحكم العالم من ألمانيا وتفرقت الولايات المتحدة لتصبح أشبه بدول القارة اللاتينية وتفرق العرب والمسلمون في سبعين دولة بسببك، كل ذلك بسبب أنك تدخلت لدقائق معدودة كي تمنع من وجهة نظرك سيطرة البريطانيين على جزيرة العرب “

ضرب بالمطرقة على منصة الحكم وقال :

” لذا حكمت عليك وقلبي يعتصر، بأن نخفي حقيقتك وتمحى ذكرياتك وتعيش بين الزمنين كرجل عادي، لكن غريزتك لم تلهمك أن ترى الفارق فقررنا أن نلغي المسار الطبيعي من ذكرياتك ونجعلك تعيش ليوم واحد في المسار الآخر الحقيقي الذي تسببت فيه، وحينما تأكدنا من استيعابك للدرس قررنا إعادتك وإعطاؤك الفرصة كي تكفر عما اقترفته لكن الثمن سيكون غاليا، سيكون عليك أن تقتل نفسك “

(4)

تغضنت ملامحه من الرعب، كيف خطر لأبيه بأن يتخلى عنه ويجبره على قتل نفسه، أوليس الانتحار محرما، حاول أن ينهض فأجبره مرافقه على الجلوس، فقال :

” أبي، لقد أيقنت أن تدخلي له عواقب وخيمة، وأنا نادم أشد الندم، لكن كيف تحكم علي بإعدام نفسي بعد أن قضيت عقوبتي كما قلت، لو تركتني في ذلك الزمن الغريب لأقضي نحبي بسبب الجنون لكان ذلك أرحم “

ابتسم والده وأردف بقوله :

” ومن قال لك بأنك ستموت أو ستعدم، كل ما عليك هو أن تذهب في الزمن للحظة التي تمكنت فيها من التسلل ومنع المندوب البريطاني من مقابلة الأمير السعودي لنظيره الإدريسي في تلك الفترة، سترى نفسك هناك محاولا إعاقة هذا اللقاء، عليك أن تتخلص من نسخة (نزار) الأخرى هناك بهذا المحقن المسموم والذي سيقضي عليه في الحال بلا ألم، ثم تعود “

فهم (نزار) المقصد، قام من مكانه وأحنى رأسه إجلالا لوالده وللحاضرين، قدم له مرافقه المحقن وتوجها سوية نحو باب القاعة، دخلا من الباب إلى بداية القرن العشرين وتحديدا جنوب منطقة الحجاز حيث كان المندوب البريطاني قادما من هناك مع الشيخ (فيلبي) منتظرا حضور الأمير السعودي من جهة الطائف مرسولا من والده سلطان نجد والحجاز متجهين لمقابلة الحاكم الإدريسي الذي اتفق مع مرسولهم بأن ينضم لحلفهم على أن يساعدوه في صراعه المستمر مع الإمام اليمني الذي يسعى لضم مناطق الحكم الإدريسي إلى حكمه ..

رأى (نزار) شخصيته الأخرى تقترب بخفة من موكب المندوب البريطاني، توجه مع مرافقه بسرعة متناهية تجاهه وعاجلاه بضربة خلف رأسه وحقناه على عجل وعادا مسرعين لباب المنزل الحجري المهجور ليعودا إلى الحاضر..

لم ينتبه ذلك الموكب البسيط للآهات المكتومة التي أطلقها (نزار) بعد ضربه على رأسه، واصل المندوب البريطاني حديثه مع الشيخ (فيلبي) مؤكدا على أهمية تلك المنطقة استراتيجيا لإطلالتها على البحر الأحمر وقربها من مضيق المندب وأفريقيا ومصر، حذره من تدخل الألمان والإيطاليين في المشهد وتاثيرهم على الأدارسة فقواتهم في تصاعد بعد انهيار العثمانيين، ينبغي أن يسيطروا على عرب الجزيرة حاليا ويسلموا الزمام للحليف السعودي ليساعدهم فالعالم مقبل على تغيير محتوم ولا بد أن تستمر بريطانيا في مكانتها التي يعرفها العالم كامبراطورية لا تغيب عنها الشمس..

3 آراء حول “إدريسي …

  1. Farstar2015 كتب:

    ماشاءالله تبارك الله خيالك واسع
    اندمجت فعلا مع شخصية نزار
    مبدع كالعاده

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s