معصارة امصليط … (من الأساطير الجيزانية)

(1)

استفزني ذلك الدوران الرتيب والخطوات اليائسة المنتظمة للبعير في معصارة السمسم في السوق التراثي، يدور عكس عقارب الساعة كأنه كوكبٌ محتوم عليه بالدوران حول شمسه، عيناه لا تريان إلا أمامه وعقله المحدود لا يستوعب مفهوم الدوران فهو يحسب أنه يقطع المسافات الطوال ليلحق بالقافلة..

ينتج من دورانه المجهد تلك العصارة الذهبية للسمسم – (صليط) كما نسميه، تذكرت تلك الكلمة النابية، لا أستطيع إخراجها من رأسي، تبّاً، لقد رآني ذلك الكهل صاحب المعصارة..

أخبرته بانني أريد أفخر أنواع ال(صليط) التي ينتجها بعد أن استفسر عن سر ضحكاتي الكتومة وهو يتمعن فيّ بعينيه الغائرتين، لوهلة ظننت أنه سيعنفني ولكنه بهدوء مريب ذهب إلى داخل كوخه البسيط وأحضر لي قنينة (صليط) مغلفة بإحكام، يا لهذا اللون الغريب، خليط متجانس من الذهب والياقوت، أحمر ذهبي أو هو ذهبي محمرّ، سألته عن سر قتامة الخليط فأجابني بأنه سر المهنة، وهذا النوع يستخدم فقط في علاج الأمراض المستعصية، أصررت عليه ووعدته بأن أغطي قصته في الصحيفة، ألم أقل لكم أنني إعلامي مشهور، المعذرة توقعت هذا جلياً لديكم.. 

لاحت ابتسامة عجزت عن تحليلها، أهو سعيد بعرضي أم يتهكم، طلب مني الحضور في المساء فالآن وقت راحة البعير وميعاد إطعامه، ولاحقاً سيريني الخلطة التي يضيفها لهذا (الصليط) الذي يكاد يتوهج في قنينته، سألته عن السعر أجابني بأنه هدية رغم أن قيمته تتجاوز الثلاث خانات.. 

نظرت لساعتي، لم يتبق الكثير على فترة المساء، سأجول قليلا لعلي أحظى بقصة أخرى أرضي بها جمهوري، لدي جمهور غفير كما تعلمون، ألا تعلمون ؟ ها قد علمتم الآن.. 

(2) 

طغت حمرة الشفق وأسبل الليل سواده عليها، كم أعشق هذا التوقيت، يبهرني امتزاج ألوان الطبيعة، قرمزي وحمرة قانية وسواد وبقايا شمس، لعلكم عرفتم سر انبهاري بقنينة (الصليط) فأنا فنانٌ تشكيلي كما تعرفون، لا تعرفون هذا أيضاً، ماذا تعرفون إذاً ؟! 

ناداني صاحب المعصارة الكهل إلى كوخه الضيق، البعير يبرك استعداداً للنوم، كيف سيريني طريقة صنع (الصليط) إذا نام البعير ؟! انتبهت على صياح الكهل يريد مني الدخول، كيف سيتسع المكان لنا جميعا ؟! دخلت وأوصد الباب خلفي وأشعل فانوساً صدئاً لا يقل عمره عن قرنٍ من الزمان.. 

علق الفانوس في منتصف الكوخ فاتسعت عيناي من الدهشة، يا لرحابة المكان هنا ويا لقتامته، أرى شعارات ورموزاً وحروفاً متقطعة وأنجماً مقلوبة مرسومة بعشوائية في جدران الكوخ، وقناني (الصليط) المتوهج على الأرفف وكأنها فرحت بمقدمي عليها، اقتربت من الجدران أكثر لأميز الكتابات، إنها مكتوبة بالدم، هذا دم لا شك في ذلك ..

قررت الخروج مسرعا من هذا المكان المشؤوم، الكهل والبعير بعينين حمراوين كاللهب وقفا أمامي حاجزاً، تراجعت في رعب، أخبرني الكهل في تشفٍّ بأن دماء المتعجرفين هي الوصفة السحرية التي يضيفونها مع عصارة السمسم، والتعاويذ الشيطانية تساعدهم في ذلك فالغرور والكبر هما الخطيئة الأولى والمفضلة لإبليس.. 

تركاني وذهبا كي يجهزا (الصليط)، وها أنا ذا أكتب قصتي في عجالة في هاتفي المحمول الذي لا يرضى أن يستقبل شبكة الاتصال وكأنني دخلت كهفاً في الأرض السابعة، من حسن حظي أنهم لم يفتشونني، أرجوكم أرجوكم إن لم تتمكنوا من إنقاذي فتخلصوا من كل قناني الصليط لديكم، التي تشوبها حمرة دامية على وجه الخصوص.. 

الصورة من إبداع رحاب علي

img_7449

7 آراء حول “معصارة امصليط … (من الأساطير الجيزانية)

  1. hessah كتب:

    يالله هذي قصه حقيقيه والا وهم من خيالك الرهيب
    استاذي أرجوك كمل القصه لا توقف
    جداً جميله🙏🏼 🙏🏼💜

  2. مريم صميلي كتب:

    قلة من الكُتاب من يستطيعون الانخراط في قصصهم وعيش كل تفاصيلها فتجده البطل والمؤدي والنجم وضيف الشرف وحتى الكومبارس الغريب ابضاً انك تستطيع تقمص دور الجمهور وجذب كل واحد منهم ليصبح بطلاً في ازقة قصصك ،، مايبهرني حقاً ويدهشني انني اتيقن ان هنالك جزء من كل منا في سطورك بشكل او بأخر ، الاندماج بين الحرف والحبكة المرسل والمتلقي صنعه لا يجيدها الا محترف ،، وانت استاذي على رأس القائمه

  3. Jibril Jaefer كتب:

    الألوان في القصة لها طابع فنان بين الجمال و الخوف بين الخير والشر بين جمال المنتج الصليط ورداءة الأخلاق الإنسانية حينما تنحرف عن مسارها الحقيقي. جميل جدا

اترك رداً على waleedgadry إلغاء الرد