حواس الإنسان ترتبط ارتباطاً وثيقا بالذكريات، فكما تثيرها الروائح والأغاني والصور، كذلك يفعل الأكل ..
لنا أن نشبه هذه العملية بآلة زمن تعيدك للماضي في لحظة..
بعض اللقيمات تتهادى في الفم بدلال، نمضغها بعناية بينما هي تحفز بريعمات التذوق لتقوم بإطلاق سيالات عصبية تشق طريقها بسرعات فائقة تجاه الدماغ فيطلق سراح هرمونات السعادة ومراكز الذاكرة لتعيش معك اللحظة باستمتاع..
لقمة تذكرك بطفولتك في منزل جدتك، وأخرى بأول سفر خارج الوطن وثالثة تذكرك بشخص اعتدت على تناول هذا الطعام معه..
أتذكر (المرسة) التي كنت آكلها في طفولتي – بُرّ وموز وسكر وسمن- مع طبق السمك المملح بجانبها و(الحلبة)، في حيّنا الساحلي في مدينة جازان كنت نذوقها بالعسل في غداء مناسبات الزواج (المقيل) مع فطيرة (بنت الصحن)..
ارتبطت أكلات مثل (المندي) و(الكبسة) و(المرقوق) بالمناسبات في حينا حيث أن الوجبة اليومية لنا لا بد أن تحتوي (السمك)..
ارتباطي العاطفي ب(الصيادية) ليس له مثيل فهو بريد القلب من (أمي) إليّ، وفي مقارنات غير عادلة كلما أتذوق (الصيادية) في مكان، تفوز أمي بلا جدال، وفي المرة الوحيدة التي حاولت تقليدها في المعسكر الكشفي في صلالة -عمان انتهت باحتراق السمك والرز وحتى أصبعي معها..
أول حبة طعمية وطبق حمص في مطعم أبوعماد أيام ابتدائية خالد بن الوليد في حي الجوازات، وأول إدام سمك في مطعم الرديني والقهوة التي كانت في الحزام، وأول براد شاهي في المقهى المقابل لشركة الاسماك، وأول مرة أشتري طبق (أوصال الدجاج المشوي) من نقودي التي وفرتها وأكلتها على الرصيف وبجواري ثلاثة قطط تلتهمان ما يتبقى من العظم..
البطاطا المقلية التي كانت من الثوابت بعد صلاة المغرب حينما نعود من الملعب متعبين، وعبوات السن توب والسن كولا التي كنا نشربها بشكل هستيري حتى نكمل كتيب الطوابع، والفطائر التركية مع البيتزا خلف سوق الغروي، ومطعم النورس المتخصص في الأكلات الآسيوية عند دوار التوحيد سابقاً، وسندوتشات الشاورما عند بقالة همام، وأكلة مضغوط الدجاج في السكن الجامعي في أبها..
وذكريات المخيمات الكشفية التي يستطيع فيها الطاهي أن يحول تجربة المعسكر إلى ذكريات لا تنسى أو جحيم ننتظر انتهاءه الملعقة وقارورة الشطة التي كنت أحملها معي باستمرار والكم الهائل من تعليقات زملائي يا (ولد ماما) و(جيزاني شطة)..
ذكريات زملائي في محافظات المنطقة مع كل (حيسية) و(مغش) و(مفالت) والكرم البالغ من أهاليهم..
مسابقة أجمل طبق في الأندية الصيفية التي يحضر كل مشارك طبقاً من المنزل لنتشاركه وصارت عادة ثابتة لدي مع طلابي حيث نختم العام بوجبة جماعية في قاعة الدراسة..
في كل مدينة نزورها نتذكر، البيك في جدة، الطازج في مكة، مثلوثة غوزي في الرياض، فول الرمادي في أبها، زيتون الجوف وخلاص الأحساء وسكري القصيم..
ذكريات أول دونات في العاصمة واشنطن، وأول بيتزا في ضواحي نيويورك وأول سوشي في فيلادلفيا وأول أخطبوط مغلي في هيروشيما، وأول هامبرغر (حقيقي) في مطعم فدركرز والذي غير مفهومي عن هذه الوجبة فصرت من عشاقها..
أول تشيزكيك في كوالالمبور في شهر العسل، وأول سموذي فواكه في مطار هيثرو حيث كدت أن أضيع رحلتي بسبب تركي لحقيبتي سهواً على المقعد وذهبت لدورة المياه، كانت بطعم الفراولة والموز يومها، وأول سالمون تذوقته في ذات الرحلة حيث كنت أحسبه قطعة كالتي يضعونها في الزيتون المعلب..
فعلاً إن لكل لقمة وسيلتها للتعبير عن الحنين ولكل أكلة ذكرى محفورة في جدار الزمن..