تتفق مع زملاء الدراسة الذين لم تقابلهم منذ أعوام، تذهبون للعشاء سوية في أحد المطاعم الفخمة في المدينة، يبدأ بينكم الحوار والسؤال عن الأحوال، لوهلة تشعر وكأن هذا الموقف قد عشته من قبل بينما لقاؤكم يحصل للمرة الأولى منذ فترة طويلة كما ذكرنا، لومضة بسيطة تشعر بنفسك خارج الحدث، وكأنك تشاهد فيلما معادا على شاشة التلفاز، لحظات فقط وتعود بعدها للواقع لتكتشف أن المشهد اختلط عليك، تعيشه للمرة الأولى وتشعر بأنك قد عشته من قبل، تتنهد ثم تندمج مع زملائك مع قليل من الإحساس بالغرابة والرهبة..
تسمى هذه الظاهرة (شوهد من قبل/ الوهم الذي سبق رؤيته) وبمصطلحها المعروف المأخوذ من الكاتب الفرنسي (إيميل بويرك) في كتابه (مستقبل علم النفس) أسماها (ديجا فو Deja Vu)..
هناك العديد من التفسيرات التي تفسر هذه الظاهرة، سأتناولها من وجهات نظر طبية ونفسية وروحانية، ولك أن تقتنع بالتفسير الذي يناسبك..
التفسيرات الطبية تتناول تأثير بعض الأدوية في ارتفاع مستوى الدوبامين في الجسم الذي قد يؤثر على أداء المخ، ومن المعروف أن المعلومات تنتقل من المحيط الخارجي والجسم إلى المخ عن طريق النبضات الكهربائية في الجهاز العصبي، ولذلك فأي خلل ولو لأجزاء من الثانية لتوصيل المعلومة -كأن ترى أحد العينين الحدث قبل الأخرى أو من الفص الأيمن للأيسر للمخ- قد يجعل المخ يستوعب الحدث على أنه ماضٍ وحاضر في نفس الوقت فيختلط عليك الشعور بالموقف، وتشابك الأعصاب المسؤولة عن الذاكرة قصيرة المدى وبعيدة المدى أيضا قد يؤدي لنفس النتيجة، فيخزن الحدث في نفس الوقت في الذاكرتين فيصبح الحدث وكأنه أحد الذكريات بينما هو يحصل الآن فتراه وكأنه وهم أو ذكرى صارت من قبل..
التفسيرات النفسية تبرر بأن لذلك علاقة ببعض العوارض كالقلق وانفصام الشخصية وربما تكون نتيجة معلومات نعرفها من قبل ولكننا نسيناها واستطعنا استرجاعها حالما رأينا مؤثرا في المشهد أعاد لنا الذكرى، أيضا ربما تكون نسخة من حلم رأيته قبل فترة وتم تخزينه في الذاكرة في عقلك اللاواعي أو رغبة قوية لتكرار تجربة ماضية تجعلك تتمنى أن تعود فتسقطها على المشهد أمامك، كل ذلك يحدث طبعا من عقلك اللاواعي فلا تشعر بالفرق..
التفسيرات الروحانية تتفاوت حسب الديانة، فأتباع الهندوسية والبوذية يرونها جزءا من حياة سابقة -لإيمانهم بالتقمص وتناسخ الأرواح- بينما أتباع الديانات السماوية كالإسلام والمسيحية واليهودية يرونها لمحات من حياة البرزخ ولقاء الأرواح، فنحن عندما ننام تذهب الأرواح لعالمها الغيبي فتقابل أرواحا أخرى وقد تطلع على أحداث لم تحصل بعد، وعندما تعود يخزن العقل اللاواعي هذه المعلومات ويسترجعها حينما يرى ذات المشهد، كما في قصة سيدنا علي حينما رأى سيدنا محمد ﷺ بعد وفاته في المنام وأكل معه تمراً، وتكرر المشهد في اليوم التالي في المسجد في عهد سيدنا عمر وأكل تمراً من امرأة عجوز فكاد يقسم أنه نفس التمر الذي أكله في منامه مع الرسول ﷺ..
تفسير آخر يقول بأننا عندما كنا في عالم الذر (الأرواح) قبل الخلق، حينما مسح الله سبحانه على ظهر سيدنا آدم وأشهد علينا نحن ذريته، أن الأرواح رأت حيواتها حينها وهناك جدال كبير حول مسألة التخيير والتسيير وهذا موضوع آخر..
ظاهرة الديجافو تنشط في مرحلة الشباب وتقل كلما كبرنا في السن ولكنها تستبدل بالرؤى في المنام على ما أعتقد..
للحديث شجون، يبقى أن نشير لبعض المسميات القريبة منها مثل ظاهرة (جامي فو Jamais Vu) والتي هي الشعور بأنك تعيش لأول مرة تجربة قد عشتها مسبقا في ظاهرة معاكسة للديجافو، وظاهرة (ديجا انتندو Deja entendu) والتي هي الشعور بأنم سمعت عن شيء ما من قبل لكن لا تتذكر متى..
هناك فيلم رائع للمخضرم دينزل واشنطن بنفس العنوان Dej Vu ورواية أيضا بنفس الإسم ديجافو لسلام عيدة وتفترض الرواية نظرية وجود أشخاص أشباه لنا في أكوان موازية وبطريقة ما تتشابك ذكرياتنا ونرى أننا نعيش مواقفا قد رأيناها من قبل..
كل ما سبق مجرد تفسيرات ونظريات والعلم عند الله سبحانه، فالعقل وظواهره بحر من الإعجاز الرباني لا شاطيء له..