يكاد يكون عرفاً – لا يشذ معه إلا القليل – كون صالون الحلاقة هو مقر الأعمال غير المنجزة والرسائل غير المقروءة والمجلات القديمة ومتابعة مباريات فرق لا نعرف عنها شيئاً سوى الحماس الحذر من الحلاق خشية أن يجتث خصلة شعر أو يجرح ذقن أحدهم..
يقوم الحلاق مقام حكواتي المدينة في المدن الصغيرة إن كان من أهلها، ومندوب سياحة على مستوى عال إن كان مغترباً فيصور لك بلاده كأنها جنة الأرض ولعل لحنينه إليها دور في هذا الشعور..
قصدت مع أطفالي حلاقاً ماليزياً -من أصل صيني- قبل مدة، تحادثنا كثيراً عن الفرق في المعيشة بين الخليج وشرق آسيا، هنأني على اختيار المجمع الذي نسكنه وسرد لي الفروقات بين المنازل في حينا، واقترح علي بعض الأماكن التي تصلح للعائلات، كان ودوداً للغاية رغم صغر سنه..
قصدته مرة أخرى بالأمس، رحب بي وسأل عن الأطفال، يكاد يكون الوحيد الذي لاحظ أنني غريب على البلد، فالغالبية يتحدثون معي بالبهاسا -لغة الماليزيين- اعتقاداً منهم بأنني ماليزي من أصل هندي -ولملامحي دور في ذلك، حان دوري فسألني بشكل خاطف كما يفعل البريطانيون حينما يريدون بدء الحديث، هل تأقلمتم على المطر بعد؟!
المطر في ماليزيا في هذه الفترة لا يكاد ينقطع، أخبرته بأن جهة الجامعة أكثر هطولاً للأمطار وقد يكون لمكان الجامعة الاستراتيجي وسط الغابة دور في ذلك، فكلما زادت الأشجار غزُرت الأمطار، ذكر لي الحلاق بأن الأحياء حولنا أقل أمطاراً بسبب المباني، قد كانت غابة من قبل لكن المدنية غزتها كالسرطان فماتت الأرض إلا من شجيرات معدودة هنا وهناك..
ذكر بأنه كان في الصين في زيارة أخيه قبل أيام قليلة ولم يستمتع بالزيارة بسبب الأعاصير، يقول أنها الأسوأ منذ أعوام وأن هذا هو انتقام كوكب الأرض منا لأننا بلاء مستطير على الطبيعة وكان يجب أن ترد علينا وتدافع عن نفسها..
ثم حول دفة الحديث للشواطئ في المنطقة، وقارنها بتايلند التي تعتبر معشوقة الشرق الآسيوي، ولا أظن أن للطبيعة الخلابة وحدها دور في هذا الاعتقاد، فنظراً للطبيعة المحافظة في ماليزيا فإن أغلب الماليزيين الراغبين في المتعة الرباعية (جنس ومخدرات وقمار وخمر) يتوجهون إلى تايلند للانفصال عن واقعهم، ذكرت له بأننا ممنوعون من السفر لأسباب سياسية فقال لي إن لم تستطع الذهاب إلى الجنة فدعها تأتي إليك -كناية عن المحلات العديدة في حينا للمساج التايلندي..
الصينيون الذين يعيشون خارجها- كمواطنين في ماليزيا وسنغافورة مثلاً- أو كممثلين للصين في بلدان أخرى يعيشون حياتهم إلى أقصاها، ويتحدثون الصينية فيما بينهم ولا أعرف ما إن كانت لغة الماندرين أو لهجة مختلفة لكنهم يذكرونني ببعض بني جلدتنا حينما يغادرون البلد لأول مرة فيتحدثون بلغتهم فقط فيما بينهم ويجربون كل شيء(محظور)..
يعشق الصينيون ألعاب الحظ والقمار ويؤمنون بالأبراج كثيراً -الشرقية منها والغربية- عرفت مؤخراً بأنني من مواليد برج الحصان الصيني وأنا من مواليد برج الثور مما يوحي بأنني ولدت في مزرعة حيوانات تشبه ما تخيلها جورج أورويل، فأنا عنيد مثلهما وترويضي صعب..
مالكة شقتنا ماليزية صينية، حريصة على المكان وتهتم لأدق التفاصيل، هذا هو الرابط المشترك بين كل الصينيين، حرصهم على أشيائهم وعلى إتقان العمل وعلى المال أيضاً بشكل جعلني أغير اعتقاداتي عن اليهود..
بعد خروجي من الحلاق اقتنيت كتاباً عن الأساطير في شرق آسيا في محاولة لإيجاد نقطة مشتركة بيننا في هذا العالم، ولعلي أبدأ مع الحلاق الودود الذي سينتظر طويلاً كل مرة نظراً لانحسار شعري كغابة هجرها للمطر وتصحرت..
روعة ،،، سلمت الانامل التي خطت