العام 2020
كانت الإصلاحات على قدم وساق في تلك العيادة البيطرية في حي بروكلين بمدينة (نيويورك)..
الطبيب الشاب(مايكل) يكاد يقفز فرحًا بعد أن ضمن الحصول على أدوات جراحة جديدة وأجهزة حديثة وغرف أوسع ليمارس شغفه في إنقاذ الحيوانات التي تركها مالكوها..
أسرّت له الممرضة باستغرابها، ما سر تلك الهبة الضخمة التي تقدر بستة ملايين دولار والتي تركتها لهم سيدة عجوز في وصيتها قبل أن تغادر للعالم الآخر؟!
هز الطبيب كتفيه بأنه لا يعلم لكنه سعيد بهذا الكرم، لعلها امرأة تحب الحيوانات كما نحبها، نظر لاسم العيادة في اللوحة الأنيقة الجديدة (عيادة بليس المجانية للحيوانات) والذي كان شرطًا في قبول الهبة أن يتم تغيير اسم العيادة، بليس Bless تعني بركة، هذه العيادة حقًا مباركة..
العام 1980
حقبة الحرب الباردة بين السوفييت والأميركان، ما تزال آثار حرب (فيتنام) وثورة الهيبيز المسالمة تلقي بظلالها على الشارع الأميركي..
(آن)..
فتاة في الثامنة عشر..
بلا مأوى..
طردت من أمها التي تزوجت عشيقها الذي ضربها لأنها لم تستجب لإغواءاته فألّب صدر أمها وأوغره عليها حتى طردتها من المنزل..
والدها قتل في غابات فيتنام..
ليس لديها عمل..
لم تكمل دراستها..
نجت من اغتصاب عشيق والدتها..
ليس بحانبها أحد..
وحيدة..
تمامًا..
تقف على حافة جسر (بروكلين)..
أغمضت عينيها تستنشق ما أمكن من الهواء قبل أن تقفز تاركة ورائها عالمًا لا يعلم بوجودها أصلًا..
تناهى لسمعها صوت قطة تموء بضعف..
قطة خائفة مبللة ترتجف لا تعرف كيف وصلت للحافة وتخشى أن تقفز للجسر فتزل قدمها وتنتهي حيواتها التسعة..
تنهدت (آن)..
لا يزال لدي وقت للانتحار بعد أن أنقذ هذه القطة، لعله عملي الأخير الخير الذي سيرفعني للجنة في السماوات بعيدًا عن الجحيم الدنيوي التي عشته..
اقتربت بحذر من القطة، هناك تشابه غريب بينهما..
كلاهما مبلل..
مفطور القلب..
وحيد..
لكن القطة تريد النجاة وتستغيث بوهن، بينما (آن) سئمت الحياة..
لم يعد لدى القطة أي طاقة للمقاومة فاستسلمت ل(آن) وهي تحملها، احتضنتها وقفزت عائدة لطريق الجسر ومضت في خطوات متلاحقة تبحث عن أقرب مكان لتترك فيه هذه القطة وتعود لتنفيذ خطتها في الانتحار.
تصرفت القطة كما لو أنها وجدت أمها..
التصقت ب(آن) وأغمضت عينيها في ارتياح، خشت (آن) أن تكون لفظت أنفاسها الأخيرة فاستعجلت خطاها لتجد عيادة بيطرية متواضعة في ركن الشارع (عيادة بيل المجانية للحيوانات الضالة)، دخلت تقاوم رغبتها في البكاء وتطلب من الممرضة إحضار الطبيب ليسعف القطة قبل رحيلها..
الطبيب (بيل جونيور)..
ابن الطبيب (بيل) الراحل والذي أسس العيادة قبل عقود وورث المهنة لابنه..
شاب وسيم متناسق الملامح يلوي أعناق الجنس الناعم إن مر بجانبهن..
رأته (آن) فاستبشرت..
تلك العينان تضجان بالعطف والدفء..
ستكون القطة في أمان معه..
سألها عن اسم القطة بعدما أخضعها لمخدر موضعي قبل الكشف على سر ضعف نبضها..
قالت لا أعلم، وجدتها على الجسر..
عرف من هيئتها أنها كادت أن تلقي بحياتها إلى النسيان..
قال لها نسميها بليس bless..
البركات الإلهية تأتي في أوقات لا نعلمها..
أنت أنقذت القطة ولكنني أشعر بأنها هي من أنقذتك..
ابتسمت (آن)..
“ابتسامتك جميلة، اغسلي وجهك وتعالي شاركيني مهمة الإنقاذ، لا بد من ملاك رحمة مع كل طبيب، أنا بانتظارك، سأطلب من الممرضة تزويدك بلباس جاف ومعطف”..
في تلك اللحظة حلت البركة بالفعل..
تم إنقاذ القطة..
عين (بيل) (آن) كمساعدة له في العيادة، عاشا قصة حب، أنشآ دورًا مستقلًا فوق العيادة ليسكنا فيه بعد زواجهما ومعهما القطة، أنجبا ابنة جميلة أسمياها (بليس)، وحين بلغت ابنتهما الخامسة من عمرها فاجأها مرض السرطان ولقلة الامكانيات في تلك الفترة في الثمانينات انتقلت للسماء تاركة قلب والديها مفطورًا..
لم يتحمل (بيل) تلك الخسارة..
استسلم للشرب حتى فقد وعيه ولفظ أنفاسه بعد ساعات بسبب تسمم دمه من إفراط الكحول..
لم تسع الصدمة قلب (آن)..
جلست على باب العيادة بالاسفل تندب حظها، أتتها القطة تحتمي بها وتحتويها، كانت تموء بحزن وكأنها تقول لا تحزني هم ما زالوا معك، بقلبك..
احتضنت قطتها وأجهشت في البكاء، قررت بيع العيادة والمنزل والسيارة ومن ثم الرحيل غربًا..
في الباص قابلت أحد الجنود العائدين من العراق في فترة حرب الخليج الأولى، داعب قطتها وسألها عن اسمها، لا تعلم ما الذي جعلها تطمئن له وتحكي له قصة حياتها..
إلى أين ستذهبين..
لا أعلم..
رافقيني..
لكنني لا أعرفك..
قطتك تعرفني، انظري إليها وهي تتأملني بحب..
ابتسمت (آن)، فابتسمت لها الحياة من جديد وعادت البركة لممارسة ما تجيده..
العام 2020
28 عامًا مضت بعد زواجها من (توم)، 27 عامًا مضت من وفاة قطتها وثلاثون عامًا منذ رحيل (بيل) وابنتها (بليس)..
اجتمعت بأبنائها الذين لم يعرفوا من قبل بقصة أختهم الراحلة وقطة والدتهم، طلبت منهم أن يتبرعوا لعيادة ما بستة ملايين دولار نصيبها من شركة والدهم الراحل، ستة ملايين تمثل عدد الأعوام التي عاشتها مع (بيل)، أوصتهم بأن يخلدوا ذكرى قطتها وابنتها هناك..
لولا البركة الإلهية التي جلبتها القطة في ذلك اليوم في الجسر..
لما تراجعت عن الانتحار..
لما عاشت ذكرى الحياة في بروكلين..
ولما قابلت والدهم وأنجبتهم..
كل القصة بدأت في عيادة بيطرية..
وجسر..
وقطة مباركة لها عينان تنفذان إلى الروح..