إعادة تدوير..

“عمي تزوج مجددًا، هذا سبب وجودنا هنا قبل أن تسألني”..

هذه كانت إجابتي على صديق عمي ونحن في ذلك المستودع الغريب، هنالك لمبات إضاءة عديدة في ذلك السقف العالي الذي يشبه كل الأشياء التي كنت أريد الحصول عليها ولن أنالها ما حييت، كل الأنوار مطفأة عدا اثنتان مسلطتان علينا كبقعة ضوء المسرح، ولولا أنني أرى أربعة جدران متباعدة لشككت بأننا في مسرحية وأنا الآن أكسر الجدار الرابع بمجرد الحديث إليكم..

عمي متكأ على الجدار القريب منا، كأنه يتأمل في حياته التي ستتغير هذه الليلة بزواجه من قصة حب عاصفة عاشها في منصة تواصل، لقد طلبها للزواج ووافقت وسنذهب من هنا إلى منزلهم لتوثيق هذا الزواج رسميا، مسكينٌ عمّي، زواجه الأول لم يكن ناجحا فقد خانته مع مديرها في العمل وطلبت منه الانفصال، كانت تتهمه دائما بعدم تلبية احتياجاتها البيولوجية وباهتمامه الزائد بي مع أنني تجاوزت السادسة عشر من عمري..

لا أذكر حياتي قبل ذلك، لا أذكر أمي وأبي أو أي فرد في عائلتي، وكأنني شخصية دخيلة هامشية في رواية قرر الكاتب إقحامها بلا أي مبرر مقنع ولا برسم شخصية مسبق يبرر وجودي بالأحداث، أحيانا أشك بأن عمي هذا هو أبي، فالشبه بيننا كبير، لو أنقصت ملامحه عقدين من الأعوام لظننت بأنه أنا، وعندما طردتنا الشرطة من منزلنا الأول، سكننا هنا في هذا المخزن التابع لسلسلة هايبر ماركت شهيرة، مديرها القائم عليها يحمل ملامح مريبة، أشك أحيانا بأنه يستخدم المخزن لتمرير صفقات غير شرعية، واستغل وجودنا كحماية للمكان، طلب مني مرة أن أرسل له إيميل، ورفض مرارا طلب عمي بالبحث عن مسكن آخر، أخبره بأنه يحتاج شابا بمهاراتي التقنية إلى جانبه، يعمل بلا مقابل، فلماذا يوظف شخصا متخصصا في التقنية بينما أنا موجود..

ما أزعجني حقا هو ذلك الصوت المدوي لسقوط جدار قبل أن يدخل صديق عمي، وكأن العالم فقد أحد حوائطه فتمنيت من قلبي أن يكون مديره الأخرق قد لقى نحبه تحت الجدار..

سألت صديق عمي:

“لماذا لا تسأل عمي عن موعد الذهاب للزواج؟!

فأجابني:

“أنا هنا من أجل ذلك، لست صديق عمك، بل طليق حبيبته التي سيتزوجها وجئت هنا لأقتله قبل أن يذهب”..

هالني اعترافه وشعرت بخوف شديد وأنا أرى يده التي تمسك بالمسدس، فجأة سمعنا صوتًا مرعبًا، ورأيناه، كائنٌ ما يشبه نقار الخشب ينقر على الجدار فيمحيه من الوجود، كانت مساحة المخزن تتناقص شيئا فشيئا بسببه، ثم اهتزت الأرض فجأة وارتفعنا عاليا حتى أنني كدت أن الامس السقف وكأنني ألامس أحلامي الضائعة للمرة الأولى، ثم هوينا مجددا وتبقت لمبة واحدة كئيبة تضيء بأقصى طاقتها كأنها شخصية تريد أن تصبح بطلة للمرة الأولى، ثم ظهرت تلك العلامة على الجدار القريب منا، تشبه علامة تدوير النفايات، عمّي ما يزال متكأ على الجدار يتأمل مفكرًا، وصديق عمي بجانبي ينظر باستغراب نحو السقف وكأنه فقد فكرة الاغتيال، صوت طلقة مسدس دوت في الأرجاء واستمر صداها يحفر في عقلي بينما ضربتني الحقيقة بعنف وعرفت ما الذي يجري هنا؟!

نحن شخصيات روائية، نعم هذا هو التفسير الوحيد، صوت المسدس يعني أن الكاتب قد انتحر، نحن صفحة من مشهد الرواية، لذلك أنا لا اتذكر حياتي قبلها، ونقار الخشب ذاك قد يكون زر الحذف الذي قضى على حدود المشهد وأزاح الكثير من كلمات الوصف التي كادت تضفي جمالا على المشهد، فلم يتبق غيري وعمّي والشخص الذي جاء ليقتل عمي ولمبة إضاءة وجدار وذكريات متبقية مما زرعه الكاتب في عقلي، ولعلنا الآن في سلة المحذوفات في جهازه قبل أن ينتحر، لكن نسي أن يحذفنا للأبد، كلهم ينسون ذلك، وأنه لا شيء يُفقد في سلة المحذوفات، سيتم إعادة تدويرنا، للأبد..

بعد لحظة صمت طويلة، نظرت للشخص الذي قال أنه سيقتل عمي وقلت:

“عمي تزوج مجددًا، هذا سبب وجودنا هنا قبل أن تسألني”..

*****

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s