“عمي تزوج مجددًا، هذا سبب وجودنا هنا قبل أن تسألني”..
هذه كانت إجابتي على صديق عمي ونحن في ذلك المستودع الغريب، هنالك لمبات إضاءة عديدة في ذلك السقف العالي الذي يشبه كل الأشياء التي كنت أريد الحصول عليها ولن أنالها ما حييت، كل الأنوار مطفأة عدا اثنتان مسلطتان علينا كبقعة ضوء المسرح، ولولا أنني أرى أربعة جدران متباعدة لشككت بأننا في مسرحية وأنا الآن أكسر الجدار الرابع بمجرد الحديث إليكم..
عمي متكأ على الجدار القريب منا، كأنه يتأمل في حياته التي ستتغير هذه الليلة بزواجه من قصة حب عاصفة عاشها في منصة تواصل، لقد طلبها للزواج ووافقت وسنذهب من هنا إلى منزلهم لتوثيق هذا الزواج رسميا، مسكينٌ عمّي، زواجه الأول لم يكن ناجحا فقد خانته مع مديرها في العمل وطلبت منه الانفصال، كانت تتهمه دائما بعدم تلبية احتياجاتها البيولوجية وباهتمامه الزائد بي مع أنني تجاوزت السادسة عشر من عمري..
الليلة الأولى الساعة 11:12 م.. تختلف طقوس الليل من شخص لآخر، السكينة الوادعة التي تقذفها العتمة الظاهرة أمامه هي الوسيلة الوحيدة لكبح جماح الأفكار المؤذية التي تسببها العتمة الماكثة بقلبه، أصبح في الفترة الأخيرة حساسًا جدًا إن تعلق الأمر بالضوضاء ونعيق الأشخاص، حتى أن أدنى همسة قد تترك ندبة في طبلة أذنه، لا شيء سوى الهدوء في عتمة الليل يعيده إلى ذاته عندما يجلس على كرسيه في الشرفة المطلة على مدينة نائمة يأمل ألا تستيقظ، هذا الهدوء الذي كدر صفحة بحيرته للتو صوتُ صراخ امرأة قادم من أحد الشقق أسفل منه، سيتحمل قليلًا فهو يعرف أن لا دخل للجيران ببعضها في هذا العالم..
الليلة الثانية الساعة 12:13 ص صوت صراخ آخر، صراخ عجيب من نوعه، لا تعلم إن كان نتاج تعذيب وضرب مبرح، أو لعبة حميمية يمارسها أفراد متطرفون وجامحون بينما يشي منظرهم في الواقع بالأناة والتهذيب والبرستيج، هؤلاء الأشخاص الذين يحسُن مظهرهم ليواري نخرًا متزايدا في ارواحهم، الصراخ يتعاظم وهذه المرأة تتعذب، هل يخبر الشرطة؟!
الليلة التالية 1:24 ص إلى الآن لم يصرخ أحد، ما أثار استغرابه فعلًا أن بقية الجيران لم يتحدثوا بالأمر في المصعد، ذلك المصعد الذي يتحول كل صباح لجلسة نميمة من طراز فاخر، يكاد لا ينجو ساكنٌ منها حتى هو، ومتأكد بأنه يومًا ما بعد أن أدار ظهره لرواد المصعد قد تم إنشاء حفلة غيبة على حسابه وكم أنه إنسان هادئ عديم التواصل ويحمل سرًا خطيرًا، فالهادئون في نظر العالم هم قتلة متسلسلين على الأغلب..
ليلة أخرى 2:35 ص تمنى أن تعود الليالي كليلة البارحة، هدوء يغري الناس للنوم والذئاب للبحث عن قمر يعوون له ويشتكون خيبة الغابة، ارتاح من الصراخ المؤذي والذي يقتلع القلب من مكانه إن كان له قلب ولم يتحول مكانه لحفرة تبتلع ما يقع فيها ولا يعود، أخذ يتنفس بعمق لكنه اضطرب عندما سمع ذات الصرخة، لا بد من حسم هذا الأمر للأبد، قام وارتدى ما يزيل عنه الشكوك إن رآه أحد وحسبه مخمورًا نسي بيته، تجول بين الأدوار وأبواب الشقق يسترق السمع يسترجي أن تصرخ إحداهن ليتأكد، بعد عناء طويل سمع الصوت مجددًا فانطلق لا يلوي على أمره ليتتبع هذا الصوت، هل الجيران يعانون صممًا دائما ولا يسمعون كل هذا الجنون، أصرخة مجون هذه أم نداء استغاثة، استقر به المطاف في الدور السادس، أدنى من الدور الذي يسكن فيه، في الشقة السادسة، أقل رقمًا من الشقة التي يقطنها، دق على الباب ستة مرات، ليفتح له رجل الباب ويتفحصه، لم يسأله عن سر طرق الباب في وقت متأخر من الليل، بل أطال النظر إليه وكلاهما مضربٌ عن الحديث، كأنهما في مسابقة ومن يتحدث أولًا يخسر، أشار الرجل إليه بأن يتفضل عليهم بالدخول، وبدون تردد دخل إلى منتصف الشقة وهو لا يعلم لماذا، كأن في عينيّ الرجل سحرًا غيبه عن الواقع، فوجئ أمامه بامرأة ترتدي شيئا لا يستر شيئا، وتبتسم، ابتسامة شخص يصرخ، صرخة لم يسمعها أحد سواه، اقتربا منه بإغواء وهو متسمر في مكانه، جاءته الإجابة في عقله مباشرة بأنه هو ضحية اليوم والحيوان الذي لبى عواء الذئب بدلًا من القمر، وأن الذئب سينام الليلة مليء البطن مسرور الخاطر، وأن تلبية صراخ الجيران بعد منتصف الليل ماهو إلا مأدبة ينقصها جارٌ فضولي، لن يسمع صراخه أحد..
ليلة أولى تالية 11:13 م صرخة عظيمة في ذات العمارة، سمعها جارٌ متحمس، يتساءل عن السبب، ويقوده الفضول إلى حتفه..
هكذا الكبار كما عودونا يمدون يد الدعم والنقد الإيجابي ليتركوا أثره في قلوبنا قراءة لمجموعتي القصصية (الأبواب التي رأت) من الأديب الكبير أستاذنا علي الأمير في مجلة اليمامة 💜
أي ضغط سيولد انفجارا، قس ذلك على كل شيء، ومن ذلك مشاعرنا وأحاسيسنا المكبوتة، فلكل فعل نتعرض له ردة فعل لا إرادية تقوم بنقش ذاتها سلبيًا في عقلنا اللا واعي، إلى أن يقرر اللا واعي لفظها عنه في سبيل أن يتعامل عقلنا الواعي معها..
وهنا تكمن المعضلة، فإما أن يكون الشخص واعيًا وحكيمًا فيقوم بعلاج ما تم لفظه من محيطات اللا واعي على شواطئ العقل الواعي حتى لا يتأثر ويقوم بمهامه بسلام، أو يكون الشخص غير واعٍ بسبب حقيقة هذه المشاعر فتجرفه الأمواج الغاضبة وتُترجم في واقعه إلى نوبات غضب واكتئاب ويأس وقد يصل للانتحار..
من طرق العلاج تلك: الذهاب للطبيب النفسي، الفضفضة لصديق، اللجوء لحضن حبيب، والكتابة..
وحيث أن العديد منا ليس لديه رفاهية نشر الكتب، فيلجأ أحيانا للكتابة في صفحاته الخاصة وفي مواقع التواصل، وبدلًا من أن يجد دعاء لطيفًا، يدًا حانية تعطف عليه، ومساحة آمنة للحديث، نجد أن الردود تحمل كمًا هائلًا من السطحية والجهل بخطورة الأمر، وكأنه نجا من تسونامي محيطات اللاواعي ليجد أمواجًا صاخبة تنتظره ليضطر عائدًا إلى شاطئه ويلزم الصمت ويعيد تخزين مشاعر مكبوتة تنقش نفسها على جدران اللاواعي المتصدعة، منتظرًا الانفجار أو الغرق، وتعود الدائرة كما كانت..
لطفًا بمن يكتب، بمن يفضفض، حلول سطحية مثل (طنش) و(ما عليك منهم)، و (أنت أقوى) هي مسكنات لا أكثر، ينبغي أن يتقبل الشخص مشاعره قبل أن يواجهها ويروضها، والكتابة عنها نوع من أنواع القبول لها، لا تعيدوه للمربع الأول، دعوه يتحدث، وقولوا خيرًا وادعوا له، أو تجاهلوا ما ترونه واصمتوا..
استيقظت على دويّ مفزع، كأن طبول الحرب قد تعالى صراخها، أشاهد المنبه لأتأكد إذا ما هنالك وقت لغفوة كجندي مرهق في وسط معركة يفقد اتصاله بالواقع بعد أن اعتاد وقع القنابل، ما يزال لدي ساعة على موعد العمل، ربع ساعة مضت وعقلي يفكر في مصدر ذلك الصوت، هل أفتح التلفاز؟! هل أقوم من سريري؟! هل هنالك وقت للاغتسال؟! هل ما زالت (مرام) تحبني؟! هل سأحصل على ترقية هذا العام؟! هل سأقوم من سريري قبل أن يرن المنبه مجددًا أو يسقط السقف على رأسي؟!
بتثاقل جررت خطواتي إلى المغسلة، لم يتغير شيء، أبدو عاديًا كأي رجل في مدينتنا، لا وسامة تذكر، ولا شهرة ذائعة، ولا ثروة ورثتها من قريب مغترب، في الحقيقة كل أقربائي يتدينون مني ولا يرجعونها، وكأنهم يخافون أن أهرب يومًا ما وأموت في بلدٍ لا يعرفني فيها أحد ولا يرثني أحد منهم، هناك تجعيدة جديدة بدت على جبهتي، وانحسارًا متزايدا لمقدمة رأسي، لثتي ما تزال ملتهبة والسواد أسفل عينيّ يتسع كأنه أحدهم صبّ حبرًا أسود على حزني، وزني ثابت رغم حركتي الدائمة، لعل الميزان يحتاج لبطاريات جديدة، أيريد أن يرثني هو الآخر قبل أن أرحل؟! كيف أرحل وأترك (مرام)، هل ما زالت تحبني؟!
ملكة الكؤوس، عشرة عصي، الأحمق، الساحر، الشيطان، وكروت أخرى تتابع نزولها على طاولتي، كنت أفرزها مرة تلو مرة جرّاء الملل، ربما لو احترفت لعب البوكر لكسبت أكثر، ربما..
سأحكي لك طاقتك، أنت متعب، أنت واقع في الحب، أنت تعاني من خذلان، أنت تشعر بالمرارة، التاروت لا يكذب، التاروت ينقل لي طاقتك، كما الأبراج، لا أدعي معرفة المستقبل من بطاقات التاروت، بل المستقبل واضح لي لأن الحاضر يرسم معالمه على ملامحك..
لطالما نسي الناس هذا السر الخطير، فن يدعى الفراسة، من ملامحك أدينك، من تعابير وجهك وارتجاف شفتيك، ورفرفة أجفانك، وهروب عينك لأقصى اليسار تبحث عن كذبة تغطي بها سوءتها، لن ينقذك خيالك هذه المرة، أنا قارئ التاروت كما هو معلن خارج محلي، لكنني حقيقة أقرأ الأفكار، الأوجه، تلك هي موهبتي الحقيقية، أتلاعب بالباحثين عن الحقيقة التي تسطع في أعينهم كالشمس لكنهم يختارون إغماض أعينهم خوفًا من مواجهتها، أحرك ضحاياي كالدمى، يمنة ويسرة، أمنحهم أملًا زائفًا وتحذيرات لا منطقية، وأخفي عليهم المزيد، لكي يعودوا، فقراءة التاروت إدمان، وطاقته أقوى من الطالع والفنجان، هذا ما يعتقدونه، هذا ما يريدون تصديقه، وهذا الذي يمنحني القوة عليهم، والمال أيضًا..
لكن ما لم أحسب حسابه هو هذا الشخص الماثل أمامي، جامد كتمثال روماني في متحف لا يزوره أحد، أحاول قراءة ملامحه، أبحث عن سر، فكرة أبدأ بها حديثي، فرزت الأوراق مرارًا ولا تطاوعني يدي أن أطرح أي بطاقة على الطاولة، ماذا أقول له وكيف؟!
أشار إلي بالتوقف عن فرز التاروت، وقال لي “ضعها على الطاولة”، كانت مبارزة من التحديق بيننا ننتظر من الذي سيغمض عينيه أولًا، خاوية نظراته من أي تعبير، كأنني أتحدث إلى جثة هامدة فقدت حقها في الحياة فجأة، طلب مني أن أسحب كرتًا من أعلى المجموعة إن كنت أريد معرفة من هو، سحبت الكرت ووضعته على الطاولة، كانت بطاقة الموت، في طاقة التاروت تعني أن شيئا قديما سيرحل وشيئا جديدًا سيأتي، من الموت تأتي الحياة، هذا معناها الضمني والطاقة التي نفسر بها وجود هذه البطاقة عندما تنزل لأي عميل، حاولت أن أشرح له وأسترجع ثقتي لكن لساني انعقد، وهذا الشخص الغريب أمامي يتمعن في ملامحي بتشفٍّ، انقلبت الآية وصار هو من يقرأ وجهي ككتاب للأطفال..
-أحقًّا لم تعرفني؟!
وأشار إلى بطاقة الموت..
استوعبت ذلك أخيرًا، إنه حاصد الأرواح، زيارة لم أكن أتوقعها، تجمدت في مكاني وأنظاري شاخصة إلى السماء لا تعلم ما الصاعقة التي حلّت عليها، سيكتبون في نعيي أنني توفيت جرّاء أزمة قلبية، وبجوار النعي بطاقة تاروت تحمل صورة: الموت..
شعور لم آلفه من قبل، شعور الحياة السابقة، القصة المختبئة بداخلي من قبل ولادتي، الإشارات الكونية التي تومض كنجم ثاقب لتخترق عقلي الباطن وتزور أحلامي بل وتهاجمها إن قاومت، وما أشعل شعوري هو ذلك المشهد الذي رأيته رأي العين قبيل لحظات رغم أنه لم يحدث في الواقع، رايتك مستلقية على جانبك أمامي، تلاقت عينانا، شعرت بحنين لا يوصف، ضممتك بحب العالم لصدري وتنهدنا، هذا المشهد الذي استمر لثوانِ وأنا أنظر ساهمًا إلى الفراغ، مشهد قد تم جلبه من مذكرات لم أكتبها، كان إحساس ذكرى حقيقية لكنني لا أذكرها، عشتها ولم أعشها، ما زال لمعان عينيك يرشدني إلى ذاتي، وابتسامتك فيها تذيب قلبي الذي تجمد من دونك، ورائحة شعرك وأنت في حضني تدغدغ دموعي وتغريها للنزول..
انهرت فجأة عندما عدت للواقع، بكيت بحرقة لم أعهدها عني، ما الذي يجري؟! أنا بخير، لست حزينا، لماذا هذا الهطول والانهمار وكأن سدًّا بداخلي تم تدميره، قمت لأسير وعقلي يحاول السيطرة على الموقف، أسير وهناك صراع عجيب على من يستحق شارة القيادة، عقلي يريد ان يعود للسيطرة فليس هناك داعِ للانهيار، وروحي تقول لن أسمح لأحد أن يحجمني بعد اليوم ولا حتى هذا الجسد الأرضي، شرارة حرب انطفأت قبل أن تندلع، انتصرت فيها روحي، فمن يتسلح بعينيك وابتسامتك لا بد أن ينتصر، وغنائم النصر يا رفيقتي، بقايا عطرك في صدري..
سأكبر وأدرس وأجد عملًا وألتقي بشريك الحياة ونجلب أطفالاً لهذا العالم وأوفر لهم بيتا وملاذا وأرعاهم إلى أن تنتهي الحياة، ربما في خضم ذلك أقرأ واسافر وأمارس ما أحب، وسأنمي جانبي الروحاني وأعبد الخالق وأتأمل وأرجو أن يكون مأواي الأخير هو الجنة، وسيكبر أولادي ويعيشون نفس نمط حياتي ويأتون بأطفال آخرين لهذا العالم يعيشون بنفس الطريقة ويذهبون ثم يأتي زمن لا يعرفني ولا يتذكرني فيه أحد حتى من تربطني بهم قرابة الدم من الأجيال التالية كما أنني لا أعرف شيئا عن أجدادي الذي عاشوا في قرون قد خلت..
وكأنني حرفٌ، في مجلد كبير اسمه الحياة، في مكتبة ضخمة اسمها الكون، مجرد حرف..
لكن تأمل يا صديقي في هذا المثال، صحيح أنك حرف لكنك تهب المعنى للكلمة، والكلمة تهبها للجملة، والجملة للكتاب، وهكذا..
أنت حرف كالشجرة، كالطير، كالنملة، كالغيمة، كالكوكب، كالنجم، لديك هدف سامٍ في هذه الحياة وأسمى من كل شيء، إن حياتك وعبادتك وسعادتك وما تقدمه لنفسك وللآخرين، هي من تصنع المعنى، حتى بأحزانك أنت فراشة في شرنقة تنتظر الخروج، أنت فكرة تريد أن تعبر للنور، أنت قطرة نور في محيط كله نور..
خلقك الله لتساعد بيتك الأعظم لينمو ويتمدد، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بوعيك، أن تؤمن بأن الطريق إلى التنوير شاق، والتوازن الطبيعي يقتضي أن نغوص في الوحل أحيانًا كي نغتسل بعدها أكثر ويصبح نورنا أقوى، تذكر أنك لست إنسانا بداخله روح، بل روح تلبس جسدًا لتحقق هدفًا أعمق، مثلك مثل بقية المخلوقات، لكن الله ميزك بالعقل والوعي وكأنك القطعة الأخيرة من اللغز، المصدر الذي يشع نورًا أقوى من أي نجم، الروح التي لا تعرف المستحيل وتتوق للعودة إلى بيتها بين النجوم، لترى الكون يتمدد، وتسبح بحمد ربها بين ملائكته..