دعوه يكتب

أي ضغط سيولد انفجارا، قس ذلك على كل شيء، ومن ذلك مشاعرنا وأحاسيسنا المكبوتة، فلكل فعل نتعرض له ردة فعل لا إرادية تقوم بنقش ذاتها سلبيًا في عقلنا اللا واعي، إلى أن يقرر اللا واعي لفظها عنه في سبيل أن يتعامل عقلنا الواعي معها..

وهنا تكمن المعضلة، فإما أن يكون الشخص واعيًا وحكيمًا فيقوم بعلاج ما تم لفظه من محيطات اللا واعي على شواطئ العقل الواعي حتى لا يتأثر ويقوم بمهامه بسلام، أو يكون الشخص غير واعٍ بسبب حقيقة هذه المشاعر فتجرفه الأمواج الغاضبة وتُترجم في واقعه إلى نوبات غضب واكتئاب ويأس وقد يصل للانتحار..

من طرق العلاج تلك: الذهاب للطبيب النفسي، الفضفضة لصديق، اللجوء لحضن حبيب، والكتابة..

وحيث أن العديد منا ليس لديه رفاهية نشر الكتب، فيلجأ أحيانا للكتابة في صفحاته الخاصة وفي مواقع التواصل، وبدلًا من أن يجد دعاء لطيفًا، يدًا حانية تعطف عليه، ومساحة آمنة للحديث، نجد أن الردود تحمل كمًا هائلًا من السطحية والجهل بخطورة الأمر، وكأنه نجا من تسونامي محيطات اللاواعي ليجد أمواجًا صاخبة تنتظره ليضطر عائدًا إلى شاطئه ويلزم الصمت ويعيد تخزين مشاعر مكبوتة تنقش نفسها على جدران اللاواعي المتصدعة، منتظرًا الانفجار أو الغرق، وتعود الدائرة كما كانت..

لطفًا بمن يكتب، بمن يفضفض، حلول سطحية مثل (طنش) و(ما عليك منهم)، و (أنت أقوى) هي مسكنات لا أكثر، ينبغي أن يتقبل الشخص مشاعره قبل أن يواجهها ويروضها، والكتابة عنها نوع من أنواع القبول لها، لا تعيدوه للمربع الأول، دعوه يتحدث، وقولوا خيرًا وادعوا له، أو تجاهلوا ما ترونه واصمتوا..

من يحرس الحرس؟!

هكذا بدأ يومي المعتاد:

استيقظت على دويّ مفزع، كأن طبول الحرب قد تعالى صراخها، أشاهد المنبه لأتأكد إذا ما هنالك وقت لغفوة كجندي مرهق في وسط معركة يفقد اتصاله بالواقع بعد أن اعتاد وقع القنابل، ما يزال لدي ساعة على موعد العمل، ربع ساعة مضت وعقلي يفكر في مصدر ذلك الصوت، هل أفتح التلفاز؟! هل أقوم من سريري؟! هل هنالك وقت للاغتسال؟! هل ما زالت (مرام) تحبني؟! هل سأحصل على ترقية هذا العام؟! هل سأقوم من سريري قبل أن يرن المنبه مجددًا أو يسقط السقف على رأسي؟!

بتثاقل جررت خطواتي إلى المغسلة، لم يتغير شيء، أبدو عاديًا كأي رجل في مدينتنا، لا وسامة تذكر، ولا شهرة ذائعة، ولا ثروة ورثتها من قريب مغترب، في الحقيقة كل أقربائي يتدينون مني ولا يرجعونها، وكأنهم يخافون أن أهرب يومًا ما وأموت في بلدٍ لا يعرفني فيها أحد ولا يرثني أحد منهم، هناك تجعيدة جديدة بدت على جبهتي، وانحسارًا متزايدا لمقدمة رأسي، لثتي ما تزال ملتهبة والسواد أسفل عينيّ يتسع كأنه أحدهم صبّ حبرًا أسود على حزني، وزني ثابت رغم حركتي الدائمة، لعل الميزان يحتاج لبطاريات جديدة، أيريد أن يرثني هو الآخر قبل أن أرحل؟! كيف أرحل وأترك (مرام)، هل ما زالت تحبني؟!

إقرأ المزيد

تاروت

ملكة الكؤوس، عشرة عصي، الأحمق، الساحر، الشيطان، وكروت أخرى تتابع نزولها على طاولتي، كنت أفرزها مرة تلو مرة جرّاء الملل، ربما لو احترفت لعب البوكر لكسبت أكثر، ربما..

سأحكي لك طاقتك، أنت متعب، أنت واقع في الحب، أنت تعاني من خذلان، أنت تشعر بالمرارة، التاروت لا يكذب، التاروت ينقل لي طاقتك، كما الأبراج، لا أدعي معرفة المستقبل من بطاقات التاروت، بل المستقبل واضح لي لأن الحاضر يرسم معالمه على ملامحك..

لطالما نسي الناس هذا السر الخطير، فن يدعى الفراسة، من ملامحك أدينك، من تعابير وجهك وارتجاف شفتيك، ورفرفة أجفانك، وهروب عينك لأقصى اليسار تبحث عن كذبة تغطي بها سوءتها، لن ينقذك خيالك هذه المرة، أنا قارئ التاروت كما هو معلن خارج محلي، لكنني حقيقة أقرأ الأفكار، الأوجه، تلك هي موهبتي الحقيقية، أتلاعب بالباحثين عن الحقيقة التي تسطع في أعينهم كالشمس لكنهم يختارون إغماض أعينهم خوفًا من مواجهتها، أحرك ضحاياي كالدمى، يمنة ويسرة، أمنحهم أملًا زائفًا وتحذيرات لا منطقية، وأخفي عليهم المزيد، لكي يعودوا، فقراءة التاروت إدمان، وطاقته أقوى من الطالع والفنجان، هذا ما يعتقدونه، هذا ما يريدون تصديقه، وهذا الذي يمنحني القوة عليهم، والمال أيضًا..

لكن ما لم أحسب حسابه هو هذا الشخص الماثل أمامي، جامد كتمثال روماني في متحف لا يزوره أحد، أحاول قراءة ملامحه، أبحث عن سر، فكرة أبدأ بها حديثي، فرزت الأوراق مرارًا ولا تطاوعني يدي أن أطرح أي بطاقة على الطاولة، ماذا أقول له وكيف؟!

أشار إلي بالتوقف عن فرز التاروت، وقال لي “ضعها على الطاولة”، كانت مبارزة من التحديق بيننا ننتظر من الذي سيغمض عينيه أولًا، خاوية نظراته من أي تعبير، كأنني أتحدث إلى جثة هامدة فقدت حقها في الحياة فجأة، طلب مني أن أسحب كرتًا من أعلى المجموعة إن كنت أريد معرفة من هو، سحبت الكرت ووضعته على الطاولة، كانت بطاقة الموت، في طاقة التاروت تعني أن شيئا قديما سيرحل وشيئا جديدًا سيأتي، من الموت تأتي الحياة، هذا معناها الضمني والطاقة التي نفسر بها وجود هذه البطاقة عندما تنزل لأي عميل، حاولت أن أشرح له وأسترجع ثقتي لكن لساني انعقد، وهذا الشخص الغريب أمامي يتمعن في ملامحي بتشفٍّ، انقلبت الآية وصار هو من يقرأ وجهي ككتاب للأطفال..

-أحقًّا لم تعرفني؟!

وأشار إلى بطاقة الموت..

استوعبت ذلك أخيرًا، إنه حاصد الأرواح، زيارة لم أكن أتوقعها، تجمدت في مكاني وأنظاري شاخصة إلى السماء لا تعلم ما الصاعقة التي حلّت عليها، سيكتبون في نعيي أنني توفيت جرّاء أزمة قلبية، وبجوار النعي بطاقة تاروت تحمل صورة: الموت..