(1)
عدل طرف شماغه الفخم ونظر إلى ساعته الأنيقة وكأنه يستعجل الوقت، يكره جدا لحظات الانتظار هذه، تلفت يمينا ويسارا في ذلك المقهى الشهير وتسائل إن كان من أحدٍ هنا لاحظ توتره الزائد وتعرق يديه، يكاد يغرق في عرقه رغم البرودة الفائقة التي تتوزع في أرجاء المكان ..
” ألم يجد مكانا غير هذا المقهى ”
حادث نفسه وهو يشاهد باشمئزاز اللون الأزرق الذي يحيط الأرجاء وتكتسي به الجدران، يكره هذا اللون بكل ما يمثله من بحر وسماء وذلك النادي المعروف ..
بينما هو غارق في لجة تفكيره السلبي قاطعه رجل مهيب الطلة ” أنور ، أليس كذلك ؟! السلام عليكم ”
” نعم أنا أنور، وعليكم السلام .. أأنت نايف الذي حدثتني البارحة ”
” أجل .. فرصة جميلة أن التقيت بك أيها المثقف الجميل ”
حك لحيته المشذبة بعناية بحركات لا واعية فمد له (نايف) بمنديل قائلا :
– لا عليك يا أنور لا تتوتر ، امسح عرقك فلا أحد يشاهدك أو يعرفك هنا، لقد قمنا باللازم ..
حدق فيه باستغراب :
– اللازم .. ماذا تقصد ؟! ومن أنتم ؟!
– لا تستعجل أستاذي .. سأضع النقاط على الحروف حتى نكون واضحين …
(2)
(قبل ساعات معدودة من لقائهما)
كعادته عندما يستيقظ من نومه، يفتح تطبيقات التراسل والتواصل الإجتماعي في جواله حتى قبل أن يذهب إلى دورة المياه ..
يقرأ بتأنٍ ردود وردات فعل أصدقائه على مقالاته التي أضحت متابعة بشكل كبير من أطياف المجتمع نظرا لعمقها وجرأتها، حيث رسم لنفسه خطا مستقلا عن البقية فلا يتبع منهجا ولا جماعة ولا يوالي الجهات الرسمية في بلدته مما جعله أيقونة للعديد من الشباب والشابات في مواقع التواصل ..
جعله ذلك حريصا على كتاباته وحتى على مظهره وفضل الابتعاد عن الاختلاط بالناس حفاظا على صورته تلك متجاهلا العديد من الاتهامات المبطنة له بأنه مغرور ومتعال وطالب للشهرة ..
لا يريد لأحد أن يتعرف على ماضيه خصوصا أنه عاشر الكثير من الأشخاص (الخاطئين) في الأوقات (الخاطئة) مما سبب له جروحا نفسية لم تلتئم بعد، وحينما وجد نفسه ذا شأن وقيمة ورأي في هذه المواقع أصر على ألا يقع في نفس أخطاء الماضي ..
ولذلك فضل أن يسكن بعد طلاقه من زواجه خارج مدينته ويعمل في مدرسة نائية في قرية لا يعرفه فيها أحد، ولا يتحدث أبدا عن عمله وحياته الخاصة في صفحته ..
وصلته رسالة انتشلته من خضم أفكاره، محتواها البسيط أثار حنقه وهلعه :
( لدي سجل كامل عن المواقع الإباحية والمحادثات الغرامية وعلاقاتك المشبوهة، لو أردت أن تتخلص من كل ذلك ، لاقيني الليلة في مقهى (النخبة) في تمام العاشرة مساءا )
(3)
ابتسم (نايف) بغموض، لوهلة ظن (أنور) أن من أمامه هو (الشيطان) ذاته يتغذى على مخاوفه ويستلذ بخنوعه وتوتره ..
– كما قلت لك في رسالتي، نعرف عنك كل شيء ونعرف أنك تريد الحفاظ على منظرك أمام متابعيك ومعارفك في المجتمع ..
رد (أنور) في عصبية واضحة :
– ماذا تعرفون عني ؟! كلها مجرد أقاويل منك ، من أنتم أصلا ؟!
أشار (نايف) إلى النادل وفي خلال لحظات خرج الجميع من المقهى عداهما ..
ذهل (أنور) وهو يرى خروجهم المتناسق السريع
” هل أنا في مقهى أم في مقر عصابة ”
– أنا أحب بلدي ولو كنت تابعا للمباحث أو للمخابرات فأنا على أتم استعداد للتعاون معكم في أي شيء تحتاجونه ..
ضحك (نايف) بشدة حتى كاد أن يسقط من على الطاولة ، ” هههههه مخابرات ، كم أنت ساذج أو لعلك أكثرت من مشاهدة الأفلام الأمريكية ”
– لا لسنا مخابرات ولا عصابة ولا علاقة لنا بدولة أو دين أو ما شابه .. نحن فقط نحب أن نضم المتميزين معنا ..
– المتميزين ؟!
– نعم وأنت عندنا شخص ذو قدرات عالية وآراء مؤثرة .. ونود أن تكون معنا ..
– معكم في أي شيء بالضبط ؟! وطالما أنا ذو قيمة عندكم فلماذا تهددونني ؟!
– ليس تهديدا .. اعتبره ورقة ضغط لنحثك أكثر على الموافقة .. ستتفاجىء حتما لو عرفت من معنا أيضا من المعروفين في مواقع التواصل .. لدينا تقنيات وشبكات تتيح لنا معرفة كل أسرارك التقنية التي لا تريد أن يراها أحد ..
ولعلك لاحظت أنهم يطرحون مواضيع متشابهة في نفس الفترة .. وكأنهم نوعا ما متفقون و .. (موجّهون)
نريد فقط منكم توجيه الرأي العام حينما نرغب ..
– لا أحب هذا الأسلوب ولا أحب أن يفرض علي رأي معين ..
– لست ملزما باتباع نفس الأسلوب ، اطرح فقط ما نود منك أن تطرحه بأسلوبك .. وسنكافئك ونقربك أكثر من (النخبة) و (صناع القرار) ..
شبك (أنور) أصابع يديه المتعرقة حول كوب القهوة الذي برد تماما :
– لو وافقت فسأخالف كل مبادئي، ولو رفضت فستشوهون صورتي أمام الكل وتقضون تماما علي .. موقف عصيب !!
حدثني أكثر عنكم على الأقل حتى أقتنع، هل لكم علاقة بالماسون والمتنورين مثلا وهل لديكم اجتماعات دورية بالبقية وهل سأقابلهم أم ماذا ..
أجابه (نايف) وهو يقهقه :
– لا تعط نفسك فوق حجمك .. بالفعل أنت متأثر بالأفلام وقصص المؤامرات .. لا يوجد شيء من ذلك وكل التحركات فردية حسب المصلحة التي نرتجيها .. عموما، سأعطيك مهلة إلى الغد لتعطينا ردك النهائي ..
بدون أن ينتظر قام (نايف) ومضى بهدوء إلى خارج المقهى تاركا (أنور) في حالة يرثى لها من الحيرة والخوف من المستقبل ..
(4)
تسائل العديد في صفحاتهم عن الاختفاء المريب لمواضيع (أنور) وإقفاله صفحته الشخصية والغاء معرفاته ..
تعددت الإشاعات ما بين خروجه للجهاد وبين القبض عليه من المباحث لتعديه على سمعة المسؤولين وبين سجنه في قضية ابتزاز بعض المعرفات النسائية الشهيرة ..
شيئا فشيئا تسربت بعض الرسائل الخاصة والصور المشينة له، وبين قائل بأنها ملفقة بالفوتوشوب وبين شامت فرح بسقوطه كمدعٍ للمثالية ..
لوحظ بعد تلك الضجة هدوءا مريبا في معظم المواضيع واتفاقها إلى حدٍ ما في الآراء وندرت المعارضات والمنشورات التي تهيج الرأي العام ..
أرجع العديد من الكتاب ذلك إلى زيادة الوعي واستشعار المسؤولية بين أفراد المجتمع وحرصهم على توحيد الآراء في مصلحة الوطن ..
عالم مخيف
قصة جريئة ي وليد
الله يقويك و تتحفنا بالمزيد
بس اش قصدك بالأزرق الهلال
😞