يفضل الروائيون صنع مواقف تدل عليهم في رواياتهم فحينما تقوم بتتبع بعض الشخصيات الروائية ستجدها تجسيدا للصورة التي كان الروائي يود أن يكونها..
من أمثلة ذلك شخصية (روبرت لانغدون) لمبتكرها الروائي الشهير دان براون مؤلف (شفرة دافنشي) التي ترجمت لمعظم اللغات الحية وعرضت على الشاشة الكبيرة في فيلم من بطولة المخضرم (توم هانكس)..
كان أول ظهور لروبرت لانغدون في رواية (ملائكة وشياطين) ثم في رواية (شفرة دافنشي) وبعدها رواية (الرمز المفقود) ورواية (الجحيم) والرواية الخامسة عن (الأصل origin)..
كلاهما – لانغدون وبراون – في الخمسينات بنفس تاريخ الميلاد والمدينة التي ولدا ونشآ فيها ودرسا في مدارسها، نستطيع أن نقول على الأرجح أن (روبرت) هو النسخة الأفضل من شخصية (دان) فضخ فيه كل ما تمناه في شخصيته، حيث جعله أستاذاً لعلم الرموز الدينية في جامعة (Harvard)، ويخوض مغامرات بوليسية في عدة دول في إطار يدمج الخيال بالأساطير بالواقع، ويهوى السباحة والغوص، ويعاني من فوبيا الأماكن المغلقة بسبب سقوطه في بئر وهو في السابعة من عمره كما أنه لا يستغني عن لبس ساعة (ميكي ماوس) التي حصل عليها في عيد ميلاده التاسع ويكاد لا يخلعها في مغامراته، وتوفي والده عندما كان في سن الثانية عشر وأصبح (بيتر سولومون) القيم على متاحف (سميثسونيان) الشهيرة بمثابة الأب له..
يتمتع (روبرت لانغدون في الروايات بقدرته على حل المشكلات وبذاكرة تصويرية عجيبة eidetic memory مما يذكرنا بقدرة الإمام (الشافعي) التي يضرب بها المثل في أدبياتنا، ورغم أصول (روبرت) – و(دان) بطبيعة الحال – الكاثوليكية والتي تقوم على التسليم للفاتيكان والبابوات والقساوسة فإنه يناقش العديد من تعاليمهم ورموزهم في رواياته ويرجعها لأصلها الوثني..
وضع أيضاً (دان) بعضاً من صفات أساتذته كـ(جوزيف كامبل) عالم الأساطير الذي ألهمه بالشخصية ذاتها وكـ(جون لانغدون) البرفسور في جامعة Drexel الذي اقتبس منه الاسم والذي واستخدم تقنيته في علم الطباعة التي تعرف بـ ambigram والتي تجدونها بكثرة في رواياته حيث تضفي غموضاً على الرموز والشفرات التي يحاول (روبرت) حلها ليصل للحقيقة..
ففي الرواية الأولى (ملائكة وشياطين) يقوم (روبرت) بالتحقيق في وفاة الفيزيائي والقسيس (ليوناردو فيتزا) في معهد (سيرن) بسويسرا والتي تجرى فيه تجارب حقيقية لمحاكاة بداية الكون، وجدوا على جسد القتيل علامة المتنورين Illuminati ومن ثم قادته الأحداث إلى الفاتيكان ليكتشف أسراراً مروعة خلف المتنورين المعادين للكاثوليكية والأديان الأخرى بطبيعة الحال، ولقد واجهت الرواية هجوماً شرساً من الإعلام المسيحي الكاثوليكي ولكنه لا يضاهي الهجوم الذي واجهته الرواية الثانية (شفرة دافنشي) التي كانت انطلاقة شهرة (دان براون) عالمياً، حيث يقابل فيها (روبرت لانغدون) القيم على متحف اللوفر في باريس (جاك سونييه) الذي قُتل عند لوحة (الموناليزا) الشهيرة فيتُهم (روبرت) بقتله، فتساعده حفيدة (جاك) على تحاشي الشرطة ولإثبات برائته يتعمق في لوحات دافنشي وخاصة لوحة (العشاء الأخير) ليكشف سر الكأس المقدس ومريم المجدلية ويلاحقه القاتل الحقيقي لـ (جاك) الذي ينتمي لجماعة (sion) السرية والتي تذكرنا بالصهيونية (zion)..
في الرواية الثالثة (الرمز المفقود) تدور الأحداث في واشنطن حيث يواجه (روبرت) (الماسونية) العالمية في العاصمة التي صممها مهندسون ماسون على شكل ألماسة وبومة بعد استقلال أميركا عن بريطانيا في القرن الثامن عشر، فيكشف العديد من الأسرار خلف المباني والطرقات والمتاحف المعروفة في العاصمة وارتباطها بالماسونية التي تطارده وتقتل قدوته (سولومون) في متحف (السميثسونيان)..
وفي روايته الرابعة (الجحيم) يخوض (روبرت) في الفن والأدب الإيطالي عن طريق لوحة وأشعار جحيم الشاعر (دانتي) الذي وضعت أشعاره ولوحات أخرى كشفرة لمكان قنبلة فيروسية وضعها عالم مهووس يريد القضاء على البشرية، فينتقل (روبرت) من فلورنسا للبندقية ليحاول إيقاف الفيروس قبل فوات الأوان، جحيم الشاعر دانتي لمن لم يسمع عنه هو حلم للشاعر في القرن يحكي رحلته من الجحيم إلى الجنة عبر طبقات عدة ويصف لقاؤه بشخصيات تاريخية ومناظر مرعبة في الجحيم فصاغه في كتابه (الكوميديا الإلهية)..
في الرواية الخامسة (الأصل) التي صدرت مؤخراً يلبي (روبرت) دعوة صديقه العالم والملياردير (إدموند كيرش) لحضور عرض سيغير من نظرة البشرية، يقوم العرض على سؤالين (من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون ؟!) يستعرض فيها نظرة المتدينين والملحدين والمتفائلين والمتشائمين لهذين السؤالين، ما هو أصلنا وإلى أين نسير ؟! تفوق (دان براون) على نفسه في هذا الرواية التي تدور في أسبانيا ويرافق (روبرت) هذه المرة خطيبة ولي عهد أسبانيا وكمبيوتر ذو ذكاء اصطناعي خارق يدعى (وينستون) في مطاردة شيقة مع الكنيسة البالمارية والحرس الملكي الأسباني.
تحولت جميع مغامرات (روبرت لانغدون) لأفلام – عدا (الرمز المفقود) و(الأصل) إلى تاريخ كتابة هذا المقال – وأفضل طريقة من وجهة نظري هي مشاهدة الفيلم ثم الرواية لزيادة المتعة حيث أن الروايات تفصل المواقف والمشاهد ببراعة..
ثيمة مغامرات البحث عن الرموز القديمة وتفسيراتها الغامضة منتشرة في العديد من الروايات والأفلام ولعل أشهرها مسلسلات (the librarians) و (sleepy hollow) و أفلام (Indiana Jones) ..
وأختم بذكر مثال لمن يجسد ذاته في رواياته في الأدب العربي بالعراب د. أحمد خالد توفيق الذي وضع العديد من صفاته وأحلامه وذكرياته في شخصياته الشهيرة (د. رفعت اسماعيل) في سلسلة (ما وراء الطبيعة) و(د. علاء عبدالعظيم) في سلسلة (سفاري)..
يقول الدكتور أحمد خالد عن دان براون في مقاله (العمل المدمر) في كتاب (اللغز وراء السطور) “أعتقد أن دان براون يحاول جاهداً الفرار من روبرت لانغدون عالم الرموز الدينية الذي لاحقه في كلرواياته”